الوقفة الحادية والعشرون : أتباع الأنبياء ضعفاء :
قال الله تعالى : {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } (27) سورة هود .
تتحدث الآية الكريمة حول خطاب قوم نوح لنوحٍ – عليه السلام – وانتقادهم لشخصيته وأتباعه , وأن أتباعَه ما هُمْ إلا أراذِلُهم وسفهاء الناس فيهم , كما قالوا في آية أخرى : {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (111) سورة الشعراء , ولذلك قال نوح لهم : { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ } (31) سورة هود , فأخبر أن عيونهم تزدري أتباعه وتحتقرهم , وهذا دَيْدَنُ أَهْل الضلال في كل زمان وآن , وقد قال كفار قريش عن المسلمين : { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } (11) سورة الأحقاف , وقد أمر الله تعالى نبيه أن يصبر مع الضعفاء والمساكين , {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28) سورة الكهف , ونهاه عن طرد الضعفة حين أمره المشركون بذلك : {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (52) سورة الأنعام .
ولو وسعنا دائرة الأمر لوجدنا أن أهل الضلال والزيغ لا يفتؤون يسخرون من أهل الصلاح والاستقامة وأنهم سطحيون سُذَّجٌ , لا يفكرون أَبْعَدَ من أنوفهم , وكثيراً ما قرأنا هذه الشنشنة من كُتَّابٍ يزعمون المعرفة والثقافة ينعون على أهل الصلاح والاستقامة اتباعهم لعلمائهم , وموافقة نصوص الوحيين , وأن هذا دليل على سطحية تفكيرهم , ومحدودية عقولهم !!
ولا شك أن التاريخ يعيد نفسه كثيراً كما قرر ذلك العلامة العظيم ابن خلدون رحمه الله .
وقوله في الآية ( أراذلنا ) جمع : أرذل , وهو أفعل تفضيل أضيف لمعرفة فجاز فيه مطابقة المفضل عليه , كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أحاسنكم أخلاقاً ) , ولو قال : أرذلنا لصَحَّ لغة كما قال تعالى : {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } (96) سورة البقرة , وربما جاء الجمع هنا – والله أعلم – لأنهم أرادوا تعميم الذم على كل من اتبع نوحاً عليه السلام , لأن الإفراد لا يعطي قوة الذم كما يعطيه الجمع , كما أن ( أحاسنكم ) في الحديث الشريف تعطي قوة الثناء أكثر من ( أحْسَنِكُم ) .
وقوله ( باديَ الرأي ) اختلف المفسرون فيها على عدة أقوال :
القول الأول : أنها ظرف زمان , أي أول الأمر , ومعناه : أتبعك الأرذلون أول الأمر ثم لما عرفوا حقيقة دعوتك تركوك .
القول الثاني : أنهم اتبعوك في بادئ أمرهم أي ظاهره , وعسى أن تكون بواطنهم ليست معك .
القول الثالث : أن هؤلاء اتبعوك في أول نظر , وبالرأي البادئ , وكما يقال : إياك والرأي الفطير , أي الرأي يظهر دون تروٍّ وتأنِّي .
القول الرابع : أن تكون ( باديَ الرأي ) حال من الكاف في ( اتَّبَعَكَ ) العائدة على نوحٍ عليه السلام , أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة ولا عقل لك .
القول الخامس : أن تكون منصوبة على النداء : يا باديَ الرأي , والمخاطب به نوح .
هذه خمسة أقوال ذكرها أبو حيان في البحر المحيط ( 6 / 141 ) .
ولديَّ قولٌ سادسٌ لم يذكره العلامة أبو حيان , وأرى أنه مقبول لغوياً , وأنسب لبلاغة السياق , وذلك بأن نجعل ( باديَ الرأي ) حال من الفاعل ( أراذلنا ) ويكون المعنى أن هؤلاء الأراذل اتبعوك حال كون رأيهم باديا سطحياً لا يفقهون شيئاً , وجاء توحيد الحال مع أن صاحب الحال جمع لوجهين :
الوجه الأول : أن جمع صفة الرذالة مقصود لتأكيد هذه الصفة في الأتباع كما أسلفنا , وتوحيد الحال للدلالة على أن هؤلاء الأرذلين يملكون عقل رجل واحد بادي الرأي , أي سفيهاً , وكأن جَمْعَتَهُمْ لم تنفعهم بارتقاء عقولهم , بل أصبحوا بعددهم كعقلية مُغَفَّلٍ واحد
الوجه الثاني : أن أفعل التفضيل : أراذلنا أتى جمعاً والأصل فيه الإفراد , كما تقول : الصحابة أفضلُنا وأعظَمُنا , فجاء الحاء مراعاة للأصل .
ومراعاة الأصل في الجمع والإفراد كثير في العربية , بل وفي القرآن الكريم كما قال تعالى : {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (112) سورة البقرة , فبدأ بالإفراد وانتهى بالجمع , لأن الأمرين مرادان في سياقهما .
وقوله تعالى : {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (33) سورة الزمر
فبدأ بالإفراد وانتهى بالجمع لغرض بلاغي مذكور في موضعه .
وقال تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } (146) سورة آل عمران , فبدأ بالجمع ( ربيون ) وانتهى بالإفراد ( كثير ) لعلة نحوية مذكورة في موضعها .
فمن خلال هذا العرض فإني أرى أن المعنى والله أعلم : ما نراك اتبعك إلا الأرذلون الذين عقولهم سطحية كعقل رجل مغفل .
والله تعالى أعلم , وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين .
21 / 9 / 1431 هـ