الوقفة السادسة والعشرون : الامتياز ليس جيداً دائما.
اعتدنا في حياتنا على أن كلمة امتياز , ومُمَيّز , وامتاز ونحوها أنها كلمات ذات دلالة إيجابية , يسعدُ المرء إذا أطلقِتْ عليه , ولكن في النص القرآني جاء الامتياز في الجانب السلبي كما قال تعالى : {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (59) سورة يــس .
فقوله ( امتازوا ) فعل أمر من الفعل : امتاز , يمتاز , ومصدره : امتيازاً .
والمعنى : تميزوا أيها المجرمون عن الصالحين , وكونوا على حِدة وجانب .
فالامتياز هنا معناه : ظهور الباطل على حقيقته , وابتعاده عن الخير , فيتميز الخبيثُ من الطيب كما قال تعالى : {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } (37) سورة الأنفال , وقال تعالى : {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآأَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } (179) سورة آل عمران .
فأفادت الآيتان على أن الله تعالى يُميِّزُ الخبيثَ , ويُظهر عُوارَه وسوءَه , ويتبينُ به أن الحق أعلى منه , وأطهر وأطيب , فالمميَّزُ هنا هو الخبيث والمجرِم , وليس الطيب والصالح .
فهل يعيد النص القرآني العظيم قراءة التقويم لدينا حين نعطي الناجح والمتفوق لقب المتميز ؟ إذ إن مفهوم النص القرآني يقول العكس , وهو أن الامتياز والتميز يعطَى للمخذول , ومَنْ كان على الجانب السلبي .
وقد جاء في الحديث الشريف : " من أنفقَ على أهله أو على نفسِه أو عاد مريضاً أو مازَ أذىً , فالحسنةُ بعشر أمثالها " أخرجه أحمد في مسنده , والخطابي في غريب الحديث ( 3 / 127 ) , فقوله : ( مازَ أذىً ) أي فصل الأذى وأبَعَدَه عن الطريق .
وقوله تعالى : ( وامتازوا اليوم ) كلمة ( اليوم ) فيها دلالة عظيمة على أن المجرمين قد يخالطون الصالحين في الدنيا , ولا يتبينُ الحق من الباطل , ولكن في يوم القيامة يظهر التميُّز لأهل الباطل والإجرام , وينكشفون عن المؤمنين الصادقين .
على أن كلمة الامتياز للأمر الإيجابي ليست خطأً , ولا أزعم ذلك , بل قد تكون صواباً نظراً لمعناه اللغوي ؛ إذ أصل الميز : الفصل بين الشيئين , فإذا اعتبرنا المتفوِّقَ قد انفصل عن المتكاسِل , وابتعد بنجاحاته عنه , فقد تمَيّزَ عليه . وكما قال المتنبي :
وبضدها تتبيّنُ الأشياءُ
وإنما قصدتُ هنا أن أبيِّنَ الاستعمال القرآني للكلمة , وأنه ولا شك أفصح وأكمل وأعلى .
والله تعالى أعلم .
26 / 9 / 1431 هـ