(7)
....ثم نهضت وتابعت :
"ولآن وداعا ..لأذهب وأستطيع آخر الأخبار "
...وولت ......
..على أثر ذلك أطلقت ضحكه مجلجلة ...فسألتني رنيم عن سبب الضحك ..فقلت :
_"اضحك ....من الأهواء وتقلبها "
_"...كيف ...؟"
.."قارنت تصرف رئيسة القسم مع أسماء , ومعك بالنسبة للأستاذ عدنان "
قالت وقد ابتسمت ابتسامه الواثق :
_"وهل تظنين أن الناس لا يحاسبون على ظلمهم ؟"
وفاء ...وما فائدة الحياة إن كنا نظلم بها ولا أمل في عودة الحق ورفع الظلم , واسترداد الكرامة ...
الدنيا صائرة إلى يباب , والأمل في الآخرة .
أنا لست ممن يحملون القلب الأسود , وتجري دماء الانتقام ...وتعشعش في صدورهم أرواح الشر ..
لكنني إنسانة ...أحس ..وأتألم ...أهتم ...وأحزن ...وقد أظلم في المواطن ..فيسلب حقي ..وتهان كرامتي ..وتخدش كبريائي ..ولا أملك القوة لاسترداد ه , فأغرق في عذاب ممض وخضم سرمديا ..وحينما أتذكر أن هناك عدل في محكمة إلهية ....يوزن فيها حبة خردل ...تطمئن نفسي ...
أردد المواقف ...احتسبها في الله , اللهم ثقل بها يوم تتطاير الصحف
أدركت... الآن.... يا وفاء"
كنت قد غرقت في كلمات رنيم , رفعت الآن بصري إليها , فلم تكن الرؤية واضحة بسبب حاجز من الدموع تكون في مقلتي ...لزمني الصمت ..وانسحبت بهدوء حيث الحافلة تنتظرني ...ولم تغب رنيم عن خاطري طوال ذلك اليوم ...سكنت جميع مقاعده ....وشملت جميع مرافقة ..
...حادثت نفسي ...”حقيقة هي مسكينة فقد تعرضت لتجربة قاسية...وهي مازالت صغيرة ..لكن شخصيتها قوية وثقتها بنفسها وقبل ذلك رحمة الله لها وعنايته لها ,ولطفه لها أيام المراهقة ...وأنا واثقة أنها لا تخلو من صفات ليست بحسنة , لكنها قليلة ,
بل لا تقارن بكياسة عقلها ...وأخلاقها العالية .. ...السؤال : أيكون ما سبق يتجسد في شخصيتها مع عدنان وتعاملها معه ....وهل تستمر في صمودها وثباتها .....أم تهتز أمام سخرية الأستاذ واستهزاءة .."
حصلنا على أغلب درجات المواد ...وكانت رنيم من أعلى القاعة درجات صافحتها بحرارة وقلت :
_"مبارك ...لم أكن أتوقع هذا المستوى ؟!"
_"حتى أنا ....الحمد لله على توفيقه "
قلت بهدوء :"كنت أتوقع أن ينخفض مستواك بسبب الأستاذ الأندلسي "
.تنهدت وقالت :"الأدب الأندلسي , كان الله بالعون "
استدركت وقالت :_" بالمناسبة ..ألم تبعث رئيسة القسم بالدرجات "
_"ألم تسمعي الأستاذ ماذا قال في الأسبوع الماضي !"
_" لم أسمع !......ماذا قال ؟"
"يقول انه سوف يعرض بعض نماذج لإجابات الطالبات , ويوضح الأخطاء التي تقع فيها الطالبات الشائعة ,وليثني كما أدعى على بعض الإجابات التي أعجبته "
_"أحقا ما تقولين !"
_" نعم "
قالت مع ابتسامة غريبة انبلجت بها شفتيها ...
_"غدا نعرف توجه الأستاذ على حقيقته "
_"ماذا تعنين ..؟!"
_"إن غدا لناظره قريب "
غدا نعرف الأستاذ على حقيقته , أردد هذه الجملة باستغراب وأنا أدلف إلى القاعة لمحاضرة أدب أندلسي .
...اكتمل العدد , وجلست رنيم في مكانها المعهود ...وجلست بجانبها ..وظهر الأستاذ , الذي لم يحفل بأي أهتمام من قبل الطالبات بطريقته الشاذة في الامتحان .
..ابتدأت المحاضرة , وتحدث الأستاذ عن غرض جديد سوف نتناوله ألا وهو الوصف ....وطرح سؤال على الطالبات قال فيه :
_"ظهر الوصف كفن في الشعر الأندلسي , كما ظهر من قبل في الشعر الجاهلي , والأموي والعباسي , ولكن الأندلسيون برعوا وأبدعوا أكثر من غيرهم فيه ...لماذا ؟
....تخرج...
فاختفت القلوب , ثم ظهر الإرتياح بعد قال :
"أسماء "
نهضت أسماء وقالت إجابة السؤال :
_"لأن الشعراء في الأندلس أرادوا , يثبتون لغيرهم ببراعة شعرهم , ومكانته الرفيعة , فسلكوا درب الوصف ..."
...قال لأستاذ بعد أن صمت قليلا :
_"الإجابة..خاطئة , تخرج هند وتجيب "
فصمتت هند ثم قالت : "لا أعرف "
وبدأ بطلب الأسماء والجميع يجيب ب:لا أعرف ..
سامية ...سناء ...عزة ...عبير....إلى أن قال :
_"هل من إجابة من أي طالبة ؟!
التفتت إلي رنيم وقالت :
_"أنا أعرف ...." فقلت لها مشجعة... "هيا أجيبي
فنهضت في ثقة كما هي عادتها .... وقالت :
_"أستاذ هل لي أن أجيب ؟"
فقال :"تفضلي "
....قالت :"برع الأندلسيون بالوصف لعدة أسباب من أهمها :
طبيعة البلاد الجغرافية ., فقد امتازت بلاد الأندلس بالمناظر الخلابة , من الأشجار المختلفة , والمياه الجارية , والجبال الشاهقة .., وغيرها , وكذلك الحالة الإقتصادية جيدة و قد دفعتهم إلى الاهتمام بالكماليات , كذلك هناك عامل ثالث لا أعرف مصداقيته ...وهو أنه زعم أهل الأندلس عرفوا برهافة شدة الإحساس ,
...وسكتت رنيم و والأستاذ صامت ..
_"!!...فقط ياأستاذ ..."
فتقلب نظري بسرعة الثانية بين الأستاذ ورنيم ..
_" ...رائعة ...وفقت فيها ...من الطالبة ؟!"
....وبوقار الجبل قالت :"رنيم هانئ "
ركزت بصري على الأستاذ ...الذي اجتمعت حبيبات العرق فوق جبينه ..وبشئ من الفوضوية قلب أوراق أمامه ..ثم استأذن وخرج ...
..ولم نلبث وعاد الأستاذ وهو يحمل الأوراق وقال بعد أن جلس ...
_"أحضرت بعض أوراق إجابات الطالبات لأعرض منها , ولتستفدن "
ابتسمت رنيم , وسألت عن سبب ذلك ..فقالت :
_"من حسنات الأستاذ أنه مكنَا من ضبط أعصابنا بمفاجئته ...!"
...ثم بدأ بعرض إجابات الطالبات ..ولسع نقده أغلب الطالبات فهذه يسخر من كتابتها التي أختلط فيه النسخ بالرقعة ..وتلك بكثرة الأخطاء الإملائية ..وثالثة برداءة الخط ....ورابعة بتشوه الصفحات ....وخامسة بركاكة الأسلوب ..,...
وعلق على السؤال الأول ...وكيف أن الطالبات ألفن في القصيدة فاختلط الحابل بالنابل , ثم علق على السؤال الثاني والذي كشف له –كما أدعى – المستوى المتدني لطالبات اللاتي عجزت أقلامهن من شرح قصيدة سهلة الكلمات , واضحة المعنى .
وفي النهاية قال :
_" ولا أهضم حق الغير , فقد وجدت سلوتي في إجابات رائعة عما سبقها و من ذلك إجابة على مستوى لم أتوقع أن أجدها قياس بالمستوى المتدني ...فقد كانت نموذجية شاملة ..فبالنسبة لسؤال الأول فقد ساقت شواهد لصاحب القصيدة لم تطلب , وهذا يدل على سعة الإطلاع ...
والرجوع إلى المصادر كما نوهت في بداية أول محاضرة ..
وبالنسبة للسؤال الثاني فهو لوحدة درة , شملت بالشرح جميع الأبيات , ذكرت القائل والمناسبة , بل أدلت بدلوها ...فأبرزت شخصيتها من خلال تعليقها على الأبيات , مستعينة بشواهد خارجية ...
أقرأ عليكن بعضا من ذلك "
وحين سلط الأستاذ على ورقةالإجابة ظهرت بعض الأسطر فقبضت رنيم على عضدي بشدة وقالت :
"وفاء ...إنها ورقتي "
فارتفع صوت الأستاذ بالقراءة :
"يقول الشاعر :
إن كان عز الدنيا اللقاء بكم ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
...من براعة الشاعر أن أختار مكان للقبا أحبته لم يذكره أحد قبله ألا وهو يوم الحشر ...السؤال هنا ....هل ضمن الشاعر اللقاء في ذلك اليوم ..والذي يقول عنه سبحانه وتعالى (ويوم تضع ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )..وهل تصور ذاك الموقف الرهيب الذي سيفقه جميع البشر امام الله سبحانه للحساب ...ولعل حبه بمحبوبه أنساه عن تصور ذاك اليوم ..
فيا ليته قال :
ففي جنة الخلد نلقاكم ويكفينا
في أثناء ذلك كانت الطالبات يخمن صاحبة الورقة ..
الأولى :" أظنها عبير , فخط عبير رائع "
الثانية :"لا أظن فالإجابة تامة وعبير متدنية المستوى "
الثالثة :"ربما سلمى أو رنيم "
وتابع الأستاذ :"علاوة على ذلك فالورقة منظمة , والخط رائع والأسلوب أروع
وأقول بكل ثقة هذه الطالبة الوحيدة التي حازت على الدرجة الكاملة , وأرجو أن أعرف أسمها , لأشكرها على المجهود الذي بذلته ..."
فالتفت إلى رنيم التي علقت بصرها على الشاشة حيث ورقتها استحثها على النهوض ...
_"هيا... اذكري انك صاحبة الورقة .."
أخفضت بصرها ..وقالت :"الأستاذ عدنان لا يؤمن جانبه .......لا استطيع , أرجوك وفاء لا تجبريني على مالا أريد...!"
عقب الأستاذ بعد لحظات بقوله
"....عموما سوف أسأل رئيسة القسم عنها فهي تستحق الشكر "ثم استأذن وخرج....
وحين هممت بالنهوض بعد أن جمعت حاجياتي وكشكولي برفقة رنيم ...ظهرت أسماء فجأة ...وابتسامة ساخرة محشوة في فمها وقالت:
_"الآن عرفت لماذا رفضت أن تكتبي بالأستاذ شكوى
على أثر كلماتها أطلق من حولها من الحاشية ضحكات السخرية ....
...قالت رنيم ببراءة :" لم أفهم ..."
وبتحدي أجابت أسماء :"على مكتب العميدة تفهمين "
خمنت ببعض ما يدور في رأس أسماء ...فقلت لها زاجرة :
_"ألا تخجلين , أو تظنين الجميع على شاكلتك ؟"
...فقالت لي :"رجاء لا تتدخلي "
والتفت إلى رنيم وقالت:_"وداعا يا...الطالبة الوحيدة "
وولت ...وحاشيتها من خلفها ....
فقالت رنيم سائلة :
_"بالله ياوفاء ....ماذا تعني .....؟!"
..."لا تهتمي بصوت الطبل الفارغ ...
...."أي طبل تقصدين ؟!....."
....حديث أسماء وطريقتها ....أشارت إلى أمر لم أتأكد منه الآن , هكذا أسماء لا تحفلي بكلماتها كثيرا...