مداعبات محمود غنيم
الشاعر المصري الأصيل محمود غنيم، هو مدرسة وحده من مدارس الفكاهة والمداعبات في الشعر العربي المعاصر، فقد تميز بين شعراء عصرة بروح الدعابة، ولا يكاد يخلو ديوان من دواوينه من باب "دعابات"، حتى إن ديوانه "رجع الصدى" انفرد بفكاهة ملحمية طويلة جاءت تحت عنوان "بط الماحي" وشغلت عدداً من صفحات الديوان وحملت مجموعة كبيرة من العناوين، مما يدل على نَفَس الشاعر الطويل وإلحاحه على الفكاهة، حتى عندما كان يشكو حاله، وأنه لم يأخذ نصيبه ولم ينل ما يريده، جاءت شكواه في قالب فكاهي، إذ يقول:
إلى من أشتكي يارب ضيمي؟
أرى نفسي غريباً بين قومي
لقد هتفوا لمحمودٍ شكوكو
وما شعروا بمحمودٍ غنيم!
ففي ديوانه الأول "صرخة في واد" وضمن باب دعابات، فقدت منه ساعة يده، فكتب قصيدة تحت عنوان "فجيــعة في ساعة" عام 1937م، يقول فيها:
وساعة كالسوار حول يدي
ضاعت فأوهى ضياعها جلدي
مازال يطوي الزمان عقربها
حتى طواها الزمان للأبد
ضيعها نجلي الصغير وكم
حملني من خسارة ولدي
قالوا: فداءً له فقلت لهم:
كلاهما فلذتان من كبدي
قالوا: التمس غيرها، فقلت لهم:
وهل معي ما يقيم لي أودي؟
ثم يقول، وهو يبكي على مفقودته العزيزة التي بدلت أيامه:
التبست أيامي عليّ فلا
أفرق ما بين السبت والأحد
واختل وقتي، فإن وعدتك أن
أزورك اليوم جئت بعد غد
وتستمر مداعبات غنيم دون توقف، ففي جريدة الأهرام كتب الشاعر "محمد الأسمر" في يوليه 8391م كلمة زجر بها الضيوف الذين يقلقون راحة الناس، واقترح على كل ذي بيت أن يكتب على باب بيته قـول محمد الهراوي:
إن في الفندق مأواك
وفي السوق غداءك
ليس ذنباً لأناس
أن يكونوا أقرباءك
وكان غنيم صديقاً للأسمر فرد عليه في الأهرام بقصيدة تحت عنوان "إكرام الضيف"، قال فيها:
صم إذا ما الضيف جاءك
وامنح الضيف عشاءك
واجعل الصوف غطاء
الضيف والسقف غطاءك
أنت إن لم تسخ مثل العرب
أنكرنا إخاءك
وشككنا فيك ياصاح
وحللنا دماءك
لا أواك البيت
والفندق يأوي أقرباءك
إن يهن عندك ضيف
يكن الهون جزاءك
فدع الحرص وإلا
عجّل الحرص فناءك.
ديك هزيل
وتستمر مداعبات الشاعر محمود غنيم، ففي ديوانه الثاني "في ظلال الثورة" نجده قد خصص باباً أيضاً كما في ديوانه الأول لدعاباته مع أصدقائه من الأدباء والعلماء والشعراء، فقد دعاه أحد أصدقائه مرة إلى مأدبة في سفح الهرم، وذبح له ديكاً هزيلاً، فلم ينج هذا الصديق من مداعبات الشاعر، فكتب قصيدة يقول فيها:
يا صاح مالك والكرم
البخل طبعك من قدم
شهدت ببخلك ليلة
قمراء في سفح الهرم
تباً لديكك يا أخي
هضم الحديد وما انهضم
ديك هزيل الجسم
تركله الجرادة بالقدم
في دولة الأدياك كان
من السعاة أو الخدم
خلناه في الأطباق
رسماً بالمداد وبالقلم
جلد يحيط بأعظم
لا لحم فيه ولا دسم
ويحكى أنه قد صدر في عهد الشاعر قرار يحظر ذبح المواشي في مصر لعدة أيام، فشكا الشاعر العوضي الوكيل في أبيات أنشأها من هذا القرار، وكان من أصدقاء غنيم، فكتب يداعبه بهذه الأبيات:
قرار الذبائح لما صدر
بكي ابن الوكيل بدمع المطر
وأقسم ما شمّ ريح اللحوم
ولا ذاقها مرة في العمر
وهل يأكل الكبش لحم الشياه؟
وهل يأكل الثور لحم البقر؟
وما أنت واللحم يا ابن الوكيل
بحسبك أكل لحوم البشر
ويشير بذلك إلى ما اشتهر به العوضي الوكيل من كثرة الهجاء في شعره.
وفي موقف آخر اشتبك العوضي في شجار مع جيرانه بسبب كلب، فأقاموا عليه قضية، وضع من أجلها في قفص، فكتب إليه غنيم يقول:
حبسوك في قفص ولست بضيغم
لكن نزلت به نزول المجرم
اليوم في قفص حللت وفي غد
تلقي الرحال بقعر سجن مظلم
عجبي عليك: يكرم الكلب الذي
خاصمته، وتبيت غير مكرم!
منقول..