الأخ الكريم أبو هيلة
السلام عليك وعلى محاورك شديد في حوراكم الانتدائي الماتع
على غير العادة أكتب بهذا الخط العريض نزولا عند حاجة عينيك التي أعللت بسببهما أحد رواياتك هنا ، فكان أن قال صاحبي ، لعله يحتاج إلى رجال الجرح والتصحيح 
لكن أظن أمرك أكبر من مسألة تصحيح النظر ، رزقك الله يا أخي ابو هيلة نورا تعدو معه على الصراط كالريح المرسلة ، ووفقنا وإياك والمسلمين لكل خير
في صلب حديثكم هنا
بين يدي الآن كتاب تيسير علم أصول الفقه للشيخ عبدالله بن يوسف الجديع ، وفيه مسألة سد الذرائع ، أحببت أن أشرككم بقراءة هذه المسألة وأنتم تتدارسونها هنا ، فشرعت بنقلها إليكم
أوردها في صفحة 187
( تعريفها :
الذرائع جمع " ذريعة " ، وهي لغة : الوسيلة المؤدية إلى الشيء
اصطلاحا : الوسيلة الموصلة إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة ، أو المشروع المشتمل على مصلحة
فهي بهذا الاعتبار متصلة بالكلام على أصل " المصالح "
أنواعها :
أنواع الذرائع تنقسم إلى قسمين باعتبارين :
القسم الأول : بحسب ما تكون ذريعة له ، نوعان :
أولهما : ذريعة مشروعة ، وهي الموصلة إلى مشروع
مثل : السعي إلى الجمعة " ذريعة " توصل إلى شهود الجمعة ، وهو " مشروع "
ويقال للأمر بالسعي إليها : " فتح باب الذريعة " ، وإن كانت عبارة غير مستعملة
وثانيهما ذريعة ممنوعة ، وهي الموصلة إلى ممنوع
مثل : الخلوة بالمرأة الأجنبية ، فهي " ذريعة " توصل إلى الزنا ، وهو " ممنوع "
ويقال لمنع الخلوة بالأجنبية : " سد باب الذرائع "
فهذا التقسيم يعني أن : ما أدى إلى مشروع فهو مشروع ، وما أدى إلى ممنوع فهو ممنوع ، وبعبارة أخرى " الوسائل لها حكم المقاصد "
على أنه غـَلب أن يستعمل لفظ " الذريعة " في الوسيلة المفضية إلى المفسدة ، ومن هذا جاء أصل " سد الذرائع "
القسم الثاني : بحسب ورود النص باعتبارها وعدمه ، ثلاثة أنواع :
أولها : ذريعة ورد النص باعتبارها مؤدية إلى المشروع ، كما تقدم في الأمر بالسعي للجمعة
ثانيها : ذريعة ورد النص باعتبارها مؤدية إلى الممنوع ، كما تقدم منع الخلوة بالأجنبية
ثالثها : ذريعة سكت عنها النص ، فلم يأمر بها ولم ينه عنها
فما ورد النص به من الذرائع فالأصل فيه حـُكم النص ، ولا يشكل أمره من حيث ورود النص به ، ولا يندرج تحت " مسألة سد الذرائع " إنما يندرج تحت نوعها الثالث
ويعرفه بعض الأصوليين بأنه : " المسألة التي ظاهرها الإباحة ، ويتوصل بها إلى فعل محظور "
درجات المباحات التي تفضي إلى المفاسد ثلاث :
الأولى ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة نادرا قليلا ، فالحكم بالإباحة ثابت له بناءً على الأصل
مثاله :
زراعة العنب ، فلا يمنع منها تذرُعا بأن من الناس من يعصر منها الخمر ، وتعليم الرجل النساء عند الحاجة ، فلا يمنع منه تذرُّعا بالفتنة المفضية إلى الزنا ، وكذا خروجهن من بيوتهن لمصالحهن ، وشهودهن المساجد ودور العلم
فتقاس المصالح والمفاسد ، فإن كان جانب المصلحة راجحا ، وهو الأصل في المباحات ، فلا تمنع بدعوى " سد الذرائع " لمجرد ظن المفسدة ، أو لورودها لكنها ضعيفة في مقابلة المصلحة
الثاني :
ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة كثيرا غالبا ، فالرجحان في جانب المفسدة ، فيمنع منه " سدا للذريعة " وحسما لمادة الفساد
مثاله :
بيع السلاح وقت وقوع الفتنة بين المسلمين بقتال بعضهم بعضا ، وإجارة العقار لمن علم أنه يتخذه لمعصية الله
ويلاحظ في هذا أن " سد الذريعة " إلى المفسدة عارض ، حيث يكون المباح موصلا إلى المحظور ، وإلا فإن بيع السلاح وإجارة العقار لا يمتنعان في ظرف عادي
الثالثة :
ما يحتالُ به المكلف ليستبيح به المحرّم ، وظاهر تلك الحيلة الإباحة في الأصل
مثاله : الاحتيال على الربا ببيع العينة
وهو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى اجل مسمى ، ثم يشتريها منه نقدا بأقل من الثمن الذي باعها به
فهذه الصورة من البيع حيلة محرّمة بالنص ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ... " الحديث
لكن الحيلة التي يتذرع بها بعض الناس هي : أن يضم إلى السلعة شيئا كحديدة أو خشبة أو سكين
فالبيع مباح في الأصل ، لكن هذه الصورة لم يقصد بها البيع ، إنما قصد بها المال ، فهي وسيلة إلى الزيادة الربوية فتمنع " سدا للذريعة "
حجية أصل سد الذرائع :
اختلف الفقهاء في اعتبار هذا أصلا ودليلاً من أدلة الأحكام على مذهبين :
الأول :
الحنفية والشافعية والظاهرية : ليس دليلا من أدلة الأحكام
والمباح عندهم باق على إباحته بحكم الشرع ، وإذا منع منه فإنما يمنع منه بدليل الشرع
وما ذكر في صورَتي " سد الذرائع " فإن الأولى كبيع العقار لمن علم أنه يستعمله لمعصية الله ، يمنع منها بدليل قوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، فجاء المنع بدليل الشرع من غير احتياج إلى أصل نسميه " سد الذرائع "
وأما الصورة الثانية وهي " الحيل " ، فإن المحظور هو الوقوع في المحظور ، والاحتيال لا يحيل الحرمة إلى الإباحة ، فالربا لا تبيحه صورة شكلية سميت " بيعا " ، والخمر لا يبيحه أن يسمى بغير اسمه ، والعبرة في هذا بمراعاة مقاصد الشرع وتعريفه لأحكام الحرام
الثاني : المالكية والحنابلة : بل هو دليل من أدلة الأحكام
واستدلوا بأنهم رأوا الشارع راعاه في التشريع ، فهو يحرّم الزنا ويحرم ما قاد إليه ، فحرّم النظر بشهوة ، واللمس كذلك ، والخلوة بالأجنبية ، ويحرم الخمر ويحرم كل ما له صلة بها ، فحرم عصرها وبيعها وشراءها وحملها وسقيها والجلوس على مائدة تدار عليها ، كما حرم شربها وما هذه إلا وسائل إليها ، ولا يتصور أن يحرم الشارع شيئا ثم يأذن بأسبابه ووسائله
والأقرب في هذا " سدا لذَريعـَة " القول في دين الله بالرأي الذي قد يورد المشقة على المكلفين في التضييق في دائرة الحلال بالظنون ، يكون المذهب الأول اصح المذهبين ، وليس لهذا تأثير كبير في الواقع العملي ، فإن كثيرا من الأحكام متحدة بين الفريقين ، إلا أن الفريق الأول يستدل لها بدليل آخر غير " سد الذرائع " والثاني يستدل لها بـ"سد الذرائع "
ومن العلماء من يستدل لهذا الأصل بحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ... " الحديث
وهذا استدلال في غير محله ، فإن " المشتبهات " التي لا يتميز فيها الحكم أهي حلال أم حرام تترك ورعا ، خشية أن تكون حقيقة حكمها التحريم ، فيواقعها من غير أن يكون له تأويل بالحل ، فيقع في " الحرام " فهي في نفسها مظنة الحرمة وليست ذريعة إليها )
دمتم بخير