اعترافات سالم
ولقد كان وضع سالم عصيباً بالفعل ، يلازمه هاجس أولئك الذين ينتظرون الإعدام ممن أتوا بسبب اعترافاته ، ويؤرقه آخرون قتلوا لنفس السبب . كان الأخ غالب آلوسي مسؤول دمشق وقتها من أبرزهم .
ولقد جرى كشف غالب حينما تم اعتقال مراسل إدلب طاهر عارف جيلو باعتراف من سالم أيضاً . فجرى تعذيبه ليعترف على موعده مع غالب ، فلما اشتد عليه العذاب ولم يكن بين اعتقاله والموعد إلا يومين أو ثلاثة أعطاهم مواعيد كاذبة ليشغلهم بها عنه . لكنهم كانوا إذا ذهبوا ولم يحضر أحد واكتشفوا الخديعة عادوا لينهالوا عليه بالضرب والتعذيب حتى كادوا يقتلونه .
وكان رحمه الله مصاباً بالقرحة وقتذاك ، إلا أن الله ثبته برغم ذلك كله ولم يعترف . ويبدو أنهم سألوا سالم عن الموعد فأخبرهم ، فأخذوا سالم وطاهر معاً وكمنوا له في المكان عند جامع المنصور . وعندما حضر غالب وتأكدوا أنه الشخص نفسه حاولوا اعتقاله ، لكنه اشتبك معهم - كما حدثني طاهر بنفسه - وأصاب أحد ضباط المخابرات بعينه قبل أن يقتل رحمه الله
شَرَك جديد
ورغم أن سجل اعترافات سالم امتلأ إلى حافته سواء بما أدلى به تحت التعذيب أو ما توصلت المخابرات إليه عن طريق اكتشاف الهويات المزورة والمفاتيح الأخرى ، إلا أنهم كأنما أحسوا أن سالم لا يزال يخفي شيئاً . وكان هذا متوقعاً لاهتمام سالم - كما ذكرت - بتولي كل المسؤوليات بنفسه ومقابلة كل المراسلين شخصياً بأمر من القيادة في عمان . ولذلك رسموا له في فرع المخابرات بالعدوي شركاً جديداً أوقعوه فيه ، وأوقعوا معه مجموعة جديدة من الضحايا .
وكانت الحيلة حينما أمروا سجاناً من المنطقة الشرقية اسمه وائل أن يتودد إلى سالم ويتقرب منه بذكاء وحنكة . فأخذ ذاك يزيد له في الطعام يوماً ، أو يحضر إليه كوب حليب في خفاء مُدَّعَى . ومع الملاطفة في الكلام والرقة في التصرفات نمت العلاقة بينهما وتمت الخطوة الأولى . وفي يوم من الأيام جاء وائل هذا إلى سالم وقال له : أنا في الحقيقة واحد منكم .. ولست في هذا المكان إلا لأنني مجند في الخدمة الإلزامية . وأرى أنه لا بد وأن نستفيد من الفرصة ونحرركم مثلما حصل في كفر سوسة .
ومن المعلوم أن مجنداً آخر في سجن كفر سوسة كان سبق له وأن تعاون مع الإخوة السجناء هناك وتمكن في أيار من العام السابق 1980من مساعدة سبعة عشر منهم على الهرب في حادثة غير مسبوقة . فلما بلع سالم الطعم وسأل وائل عن الكيفية طلب ذاك منه أن يؤمن له صلة بمجموعات مسلحة خارج السجن ليساعدونه ، فأعطاه سالم الأسماء . وفي ليلة واحدة تم اعتقال قرابة اثني عشر شخصاً لم يكونوا مكشوفين أبداً ، أذكر منهم عبد الكريم مهلهل من دير الزور الذي كان يدرس الطب في دمشق ، وآخر من بيت السراج من الدير أيضاً ، أظن اسمه الأول كان محمود . وتم للسلطة ما أرادت ، واطمأنوا إلى أن سالم أفرغ الآن ما في جعبته فنقلوه إلى فرع التحقيق العسكري ، لألتقيه مترعاً بالشجون والأسى هناك .
أحقاد الطائفيين
ومرت الأيام ، واستطعنا التعرف على بعض جلادينا وسجانينا . فرئيس الفرع هو العقيد مظهر فارس من الطائفة العلوية . وأما مدير السجن في هذا الفرع فضابط شركسي ينادونه أبا نزار مسلوب الإرادة كأكثر المسؤولين والضباط من غير طائفة النظام ، على العكس من نائبه المدعو أبو منهل ، والذي كان نصيرياً حاقداً . فكان يقتحم علينا المهجع من غير سبب إلا أن يدلق علينا سيلاً من الشتائم والكلمات القذرة التي طفحت بها حوصلته ويمضي ! ومن السجانين عرفنا واحداً اسمه أحمد سالم وآخر اسمه أحمد غانم من طائفة النظام أيضاً وفي منتهى القسوة والتجبر . وكان هناك رقيباً أول بنفس المواصفات اسمه مالك لا حد لأحقاده وقسوته . فكان لا يدع أحداً يعبر أمامه من السجناء إلا ضربه ، ولا يفوت فرصة لتعذيب الناس إلا اغتمنها . وحتى السجناء الذين كانوا يخرجون من بيننا لإدخال الطعام إلى المهجع كانوا ينالون من بطشه وظلمه بلا حساب .
الكرسي الألماني !
وفي تلك الفترة نمى إلى علمنا أن أخوات من النساء معتقلات في نفس الفرع معنا ، ولكننا لم نلتق أياً منهن . كذلك علمنا أن في السجن شيوعيين من جماعة رياض الترك وبعثيين يمينيين أيضاً ، غير أنهم كانوا قد فرزوا كل اتجاه مسبقاً ولم يتيحوا لنا فرصة للقاء .
ومن المشاهد المؤلمة التي لا أنساها عن تلك الفترة حالة الأخ حسين رشيد عثمان الذي عذبوه بالجلوس على "الكرسي الألماني" في فرع المخابرات بالعدوي حتى أصيب بما يقارب الشلل . والكرسي الألماني هذا عبارة عن كرسي ذو أجزاء متحركة يوثق السجين عليه من ذراعيه وساقيه ثم يسحبون مسنده الخلفي للوراء ساحباً بذلك جذعه الأعلى معه ، فيما تظل قدماه مثبتتان مكانهما من الجهة الأخرى المضادة . فيتركز الضغط على صدره وعموده الفقري . فإذا ازداد تهتكت الفقرات حتى تتكسر . وعندما التقيت الأخ أبا رشيد كان وضعه في غاية السوء . فلم يكن يستطيع تحريك ظهره البتة ، ولم يكن يرتاح لذلك لا في يقظة ولا في منام ، ولا يستطيع لا أن يجلس ولا أن يقف . وانتقل الألم إلى رجله أيضاً فزاد من عذابه ومعاناته . ومع ذلك كان رحمه الله يتحامل على الألم الذي لا يطاق ويصبر ويحتسب .
وكان الأخ حسين عثمان صحفياً في وكالة الأنباء السورية في غاية السرية والإنضباط ، لم ينكشف أمره رغم مضي قرابة العشرين سنة على عمله هناك ، حتى تم تكليفه بمسؤولية المكتب الإعلامي بدمشق في إدارة الأخ سالم الحامد . فلما اعتقل سالم اعترف عليه فيمن اعترف . ورغم ذلك كان أبو رشيد يردد بكل احتساب :
لا بأس .. الله يسامحهم ..كله في سبيل الله .
وعلى طيبه واحتسابه كان أبو رشيد مثال الأخ الصلب الذي ثبته الله في المعتقل ، فلم يعترف بأكثر مما اعترف عليه به سالم ، حتى أنهم أتوا له إلى السجن برئيس أركان الجيش السوري حكمت الشهابي في محاولة لإقناعه بالإعتراف . وكان الشهابي وأبو رشيد صديقان من أيام الشباب ، خرجا من بلدتهما معاً ومضيا إلى دمشق زميلين وصديقين رغم اختلاف إنتماء كل منهما . وعندما حضر الشهابي إلى أبي رشيد في سجنه حاول أن يحضه على الإعتراف . وجعل يقول له - كما أخبرني أبو رشيد بنفسه - :
اعترف يا حسين .. اعترف والباقي عندي .
وجعل يذكره كيف كان والده مختاراً للمدينة التي أتى منها الشهابي .. وكيف كان على علاقة طيبة بالناس ومن خيرة أهل البلد . وأخذ يمنيه بمساعدته إذا تعاون مع السلطة . لكنه لم يصل معه لشيء . وفيما بعد ، وعندما صرنا في تدمر وضمّنا أنا وحسين مهجع واحد حتى يوم إعدامه ، نال رحمه الله عذاباً شنيعاً على هذا اللقاء ، وحاولوا - كما سيأتي إن شاء الله - إقناع حسين بتوريط الشهابي نفسه استناداً إلى ذلك .. لكنه ورغم البون الكبير بين الرجلين فقد أبى أن يورطه بلا ذنب أو سبب ، ورفض التعاون معهم في هذه المؤامرة الرخيصة حتى ولو كان الثمن حياته .
لى المنفردة من جديد
إمضت قرابة ثلاثة أسابيع على وجودنا في المهجع الجماعي لنفاجأ صبيحة أحد الأيام بالسجان يفتح الباب ويطلب مجموعة من الشباب بأسمائهم . وعندما عادوا بعد فترة لم تطل سألناهم عم جرى فقالوا إنهم أمروهم أن يوقعوا على أوراق وحسب . ما الذي فيها ؟ لم يدر أحد . وتكرر الأمر وتتابع إخراج الشباب حتى شمل كل الذين اعترف عليهم سالم . وبعد يومين وما كدنا ننهي عشاءنا حتى جاءني الطلب مع ثلاثة أو أربعة إخوة آخرين ، فطمشونا وكبلونا من جديد ، ووجدناهم يقودون كل واحد منا إلى زنزانة منفردة ويقفلوا عليه .
مرت بضع ساعات علي أترقب أي جديد دون نتيجة . ولم يلبث البرد أن بدأ يزحف على جسدي ، وينخر مفاصلي وعظامي . ولم يكن في الزنزانة أية بطانية أو غطاء ، ساعتها افتقدت نعمة الإزدحام في المهجع التي أمنت
لنا الدفء على أقل تقدير ! ولم أكد أتكور على نفسي محاولاً بث الدفء من جزء من بدني إلى الجزء الآخر حتى أخذ القمل ينشط فيّ ويبدأ عضاته التي لا ترحم ولا تُتَّقى ! ولم تلبث أصوات أخ يعذب أن انطلقت تشق ظلمة الليل ، فأدركت أنني قريب من غرفة التعذيب التي لم نكن نحس بوجودها في المهجع . وازداد الصراخ ، وطال العذاب ، عذاب الأخ يليه الأخ وعذابي أنا . وأخذت الهواجس تطبق علي وتنهش نفسي المنهكة . وعدت إلى مخاوفي التي سكنت بعض الشيء بملاقاة الإخوة والإستئناس بهم في المهجع ، وها أنا ذا هنا من جديد لا أنيس حولي آنس به ولا جليس أشكو مرارة حالتي إليه .
ومضت الأيام علي أسير هذه الزنزانة الموحشة .. يفتح السجان الباب علي الآن ثلاث مرات في اليوم للخروج إلى الحمام .. وليته لم يكن يفعل . فتلك كانت فرصة مالك السجان الموتور وأمثاله ليسلخوا جلودنا بالكبلات من جديد ، ويفرغوا فينا من سموم أحقادهم ما وسعهم الجهد . فإذا عدت عادت إلي الأوجاع والبرد والجوع والكوابيس .. عرضة في أي وقت لنزوة سجان يفرغها في بدني المنهك من غير أي سبب أو تفسير . فلا أملك إلا البكاء والتضرع إلى الله تعالى أن يخفف عنا . وبعد مضي عدة أيام وجدتهم يستدعونني إلى غرفة التحقيق ويسألونني عن أسماء وأشخاص لم أكن أعرفهم بالفعل . فرفعوا الطماشة عن عيني وعرضوهم أمامي . فقلت لا أعرفهم . وتكرر الأمر ، ثم وجدتهم في المرة التالية يعرضونني أنا على أخ معتقل لا أعرفه ، لكنهم لما سألوه هل تعرفه قال نعم . ولقد علمت بعدها أن الأخ كان أحد من كشفتهم اعترافات سالم أيضاً ، لكنني لم أعرف لماذا قال أنه يعرفني رغم أنني لم أره من قبل بالتأكيد . ولم ألمه فيما قال وقدرت أن التعذيب لا بد وأن طاله مثلما طال البقية . لكن ذلك كان من أصعب الأمور حقاً . فالواحد لا يكاد يصدق أنه أغلق الأبواب عليه وانتهى من دوامة العذاب والتحقيقات ليأتي من يفتح عليه الباب ويعيده إلى مسلسل الرعب من جديد !
باب جديد !
وفتح الباب علي .. وعادت ليالي العذاب والجلد والسلخ والكهرباء . عشرة أيام أو ربما تزيد من التعذيب : أين هي المخابىء ؟ أين أماكن السلاح ؟ أين فلان ومن هو علان ؟ وأنا لا أعلم عما يتكلمون عنه شيئاً أبداً . والكبلات تأكل من جسدي وتشرب السياط من دمي ولا مغيث ! حتى أشرفت على الهلاك فعلاً ولم أعد أستطيع جذب النَفَس . ويبدو أنهم اقتنعوا ببراءتي هذه المرة وشعروا أنه ليس لدي شيء بالفعل فتركوني . وعدت إلى المنفردة ألعق جراحي وأستجمع كياني المحطم ثلاثة أو أربعة أيام تاليات ، لم يطلبوني فيهن إلى التحقيق أو يخرجوني إلى التعذيب .
ومن غير مقدمات وجدتهم في ليلة تالية نادوا علي ضمن قائمة مطولة من الأسماء أذكر منهم إذا أسعفتني الذاكرة الإخوة : هيثم ملا عثمان وجمال عيار من حلب . ووضاح الدن من قرى حلب كذلك . وقاسم موسى من مدينة تدمر . وحسين رشيد عثمان من الباب . ومحمد ثابت ناعس و نديم منصور من ادلب . ومحمد طاهر مصطفى وابراهيم أحمدو من أريحا . ومصطفى الشر من جسر الشغور . وشريف البعث من ادلب . وعمر الحيدر وحزين قاسم المحاميد من معرة النعمان . وابراهيم طوبل وعمر حمزة من المعرة أيضاً . وشاكر مومه وكمال أندورة من دمشق . وأخ من حماة هو شقيق محمد فخري .
وانتهت تلاوة الأسماء . وأمرونا أن نجهز أنفسنا جميعاً لرحيل جديد . إلى أين ؟ لم يقل أحد بالطبع . ولم يكن لأي منا القدرة حتى على الهمس . ووجدناهم يفتحون علينا الزنزانات ويسوقوننا تحت السياط ولسعات الكبل واللكمات ككل مرة إلى الذاتية ، فنستلم أماناتنا ، ونكمل تحت وابل اللكمات والركلات إلى سيارة النقل المغلقة ذاتها أو سيارة اللحمة كما كنا نسميها . فنكبل كالعادة ونطمش ، وتقيد رجل واحدنا برجل الآخر ويده بيده ، ويودع كل منا بلطمة أخيرة منتقاة ، لنجد أنفسنا أكثر من أربعين شخصاً محشورين في تلك العلبة المغلقة .. تتحرك بنا تحت جنح تلك الليلة نحو رحلة أخرى من المجهول !
والبقية تأتي أن شاء الله