عرض مشاركة واحدة
قديم 16-04-08, 02:37 pm   رقم المشاركة : 5
أبوس
عضو





معلومات إضافية
  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة : أبوس غير متواجد حالياً

( 2 )


قد ذكرنا في ما تقدَّمَ نُتَفًا من مفسداتِ الصداقةِ ، التي تُدخِلُ على الصديقِ من صديقِه تُهَمةً ورَيبًا . ونحن نأتنِفُ ما ذكرنا ؛ إذْ كانَ هذا البابُ من القولِ ، لا يوقفُ منه على غايةٍ ، ولا يُنقطَعُ منه إلى نهايةٍ ، وكانَ في ذكرِ القليلِ بلاغٌ ومعتبَرٌ !


كما أنَّ حقًّا على الصديقِ أن ينفيَ عن صديقِه أسبابَ سوءِ الظنِّ ، وألا يجعلَه يقِفُ منه على ما يَريبُه في ودِّهِ لهُ ، فإنَّ من حقِّ ذلك الصديقِ ألا ينساقَ وراءَ أولِّ خاطرٍ ، ولا يجعلَ لسوءِ الظنِّ على نفسِه مدخلاً ، وأن يتخِذَ الإغضاءَ ، وصلاحَ الرأيِ شِعارًا ومذهبًا . فإذا أحسَّ من صديقِه جفوةً ، أو صدودًا ، أو رأى منه انقطاعًا في الاتِّصالِ ، وإبطاءً في الرسائلِ ، فلا يعجلنَّ على صديقِه بالتُّهَمةِ ، وليتبيَّنْ أن يحكمَ عليهِ قبلَ النظرِ ، والتماسِ العللِ ؛ فعسَى أن يكون ذلك لعذرٍ منه ، أو لفهمٍ معدولٍ عن وجهِ الحقِّ ؛ فكأيِّن من ظنينٍ على غيرِ سوءٍ ، ومتَّهمٍ في غيرِ ذنبٍ !

تأنَّ ، ولا تعجلْ بلومِكَ صاحبًا *** لعلَّ له عذرًا وأنت تلومُ

ومن ذلكَ أن يكونَ كلُّ كلامِه إياهُ كلامًا جافًّا باردًا . ولا ينبغي أن يحملَ فرطُ الإدلالِ الرجلَ على أن يكلَّمَ صديقَه كما يكلّمُ عدوَّه . على أنه لا ينبغي أيضًا أن يُبالغَ في تكلُّفِ الكلامِ العذْبِ ؛ فيعاملَ صديقَه معاملةَ الغريبِ ؛ ولكنْ بينَ بينَ ؛ قالَ بعضُهم : ( حقُّ الصديقِ إذا دنا أن يُّرحَّبَ بهِ ، وإذا جلسَ أن يُّوسعَ له ) .

وقالَ الشاعرُ :
" كيفَ أصبحتَ " ، " كيفَ أمسيتَ " ممَّا *** يَزرعُ الودَّ في فؤادِ الكريمِ

ومنه أن يتركَ تعهُّدَه بالزيارةِ ، أو الرسالةِ ؛ فربّما انقضَى الشهرُ ، أو الشهرانِ ، ولم يلتقِ بهِ ، على قربِ الدارِ ، وتهيّؤ الأسبابِ ، وإسعادِ الزمانِ ، وفراغِ القلبِ من الأشغالِ . فإنَّ طولَ الانقطاعَ يُورثُ الجفاءَ ، ويُكدّرُ الصفاءَ ، ويُخلقُ المودَّةَ . فإذا هما رجعَا إلى ما بقِيَ من الودِّ رجعا إلى ودِّ طارفٍ ، وصُحبةٍ مستحدَثةٍ !

تركُ التعهُّدِ للصديـ *** ـقِ يكونُ داعيةَ القطيعهْ

و :

ومَن لم يكن مُنصِفًا في الإخا *** ءِ ، إن زرتُّ زارَ ، وإن عُدتُّ عادا
أبيتُ عليهِ أشدَّ الإباءِ *** وإنْ كانَ أعلى قريشٍ عِمادا


على أنّ للزيارةِ مقدارًا لا يحسُن أن تتجاوزَه . فأما إذا كانت الصداقةُ بينهما مبرَمةً متينةً ، وكانَ كلُّ واحدٍ منهما من أخيهِ على ثقةٍ - وذلك قليلٌ - ، فلا يضرّهما أن يلتقِيا كلَّ ساعةٍ ، كما لا يضرّهما أن يطولَ فراقُهما ؛ قالَ أبو حاتمٍ : ( من صحَّحَ الحالَ بينه وبين أخيه ، وتعرَّى عن وجودِ الخللِ ، أحببتُ له الإكثارَ في الزيارةِ ، والإفراطَ في الاجتماعِ ) [ ا . هـ . بتصرفٍ ] . أما ما جاءَ في الأثرِ : ( زُرْ غِبًّا تزددْ حبًّا ) ، فذلك في حقِّ من لم تستحكمْ بينك وبينَه عُرى المودةِ ، ولا بلغَ من نفسِك مبلغًا تُطَّرحُ منه الحشمةُ ، ويُرفعُ لهُ التكلُّفُ . وفي ذلك قولُه :
زُرْ قليلاً لمن يَّودّك غِبًّا *** فدوامُ الوِصالِ داعي المَلالِ

و :

أقللْ زيارتَك الصديـ *** ـقَ تكن كثوبٍ يستجِدّهْ
إنّ الصديقَ يغُمّهُ *** ألا يزال يراك عندهْ






للموضوع بقيّةٌ !





كتبه :
أبوس
5 / 4 / 1429 هـ






رد مع اقتباس