وتمر السنة .. والثلاث ، والخمس ، وأمل مجتهدة في وظيفتها ، مدخرة لراتبها ، والأب والأم في هم شديد ، فالسنوات تمضي ، وابنتهما بدون زواج ، وتخشى الأم أن يفوتها قطار الزواج ، ومن سيفكر بعانس معاقة ؟!!
واشتد اليأس بالأب والأم ، والفتاة أمل تتعذب من الداخل ، وهي ترى زميلاتها في المدرسة وصديقاتها قد أصبحن أمهات ، وأولادهن في المدرسة ، وأخذت تقرّع نفسها بكاية بأسئلة سليطة :
- لماذا أنا هكذا محرومة ومعاقة ؟
- لماذا أنا بالذات ؟
- لماذا احرم من الأطفال ؟
- ماذا عملت يا ربي ؟
وفي لحظات اليأس السوداء ، يدخل الإيمان كملجأ للنفس من الانهيار ، فتكفكف أمل دموعها قائلة :
استغفر الله العظيم ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ... يا رب لك الحكمة والتدبير في كل شيء ، وأعلم أنك أرحم الراحمين ، وألطف من ملك ، وأوسع من أعطى ، بيدك الخير ، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض إن كان حل عليّ سخطك ... ربي أغفرلي وارحمني ، فإني لم أعد احتمل أكثر من ذلك .
* * *
وفي يوم من الأيام .. يخرج الأب إلى المسجد لصلاة العصر ، وتفكيره دائما في مستقبل ابنته المعاقة ( أمل ) وهو يسأل نفسه : هل من بصيص أمل ؟
وبعد صلاة العصر ، يلزم الأب ركنا من أركان المسجد ، ويأخذ مصفحا ، فيفتحه ويقرأ من الآيات ما كتب الله له أن يقرأ ، وبينما هو يقرأ إذا أقبل عليه جاره ( أبو حمدان ) مسلماً عليه ، ثم جلس بجواره .
أبو حمدان : يالله إنك تحييّ هذا الوجه الطيب .
الأب : الله يحييك ويبقيك .
أبو حمدان : وش أخباركم وأخبار الأهل ؟
الأب : طيبين الله يسلمك .
أبو حمدان : يا أبو ناصر .. فيه موضوع ودي أكلمك فيه .
الأب : تفضل !
أبو حمدان : أنت تعرف ( أبو مطلق ) ؟
الأب : لا ؟!!
أبو حمدان : جارنا القديم إلي ساكن شرقي المسجد ، بيتهم تراه بيج على بني فاتح ، وهو إلي كان يجمعنا في الحيّ أيام الأعياد .
الأب : إيه إيه .. تذكرته ، وش فيه ؟!
أبو حمدان : ولده مطلق عمره خمس وثلاثين سنة وده يعرس .
الأب : الله يهنيه ويوفقه !
أبو حمدان : والله يا بو ناصر أبوه مكلمني عليك ، على أساس أفاتحك في خطبة بنتك .
الأب ( وينزل الخبر عليه نزول الصاعقة ) : بنتي أنا !!!!!!!!! ؟
أبو حمدان : إيه بنتك أنت وش فيها ؟!
الأب : أنت أنت أنت ... تدري تدري يا بو حمدان أن بنتي معاقة .
أبو حمدان : إيه أدري وأبو مطلق وولده يدرون .
الأب ( وهو مذهول ) : يدرون إنها معاقة ويخطبونها ؟
أبو حمدان : إيه .. وراك يا ابن الحلال منت مصدق ، بس إن كان في بنتك عذروب ( أي عيب ) فترى في الولد مطلق عذيريب صغير ، ما يسلم منه الشباب هاليام يا بو ناصر .
الأب ( !!! ) : يدخن الولد ؟
أبو حمدان : هاهاها ... لا يا بن الحلال ، التدخين مو شيء هاليام ، وأنت الصادق الولد فيه عذيريب إنه يتعاطى بعض الأمور المحقى ( أي السيئة ) ولكنه ناوي يتركها إذا تزوج .
الأب ( وهو
) : أفااااااااااا ... أفااااااااااااااا ... يا بو حمدان ، ما هقيتها منك ، تخطب لبنتي واحد يتعاطي مخدرات ؟!
أبو حمدان : وسع صدرك يا ابن الحلال ، الهداية بيد الله ، ثم لا تنسى إنه لو تزوج بهديه الله وبيترك هالأمور الشينة ، وبنتك ستبقى طول عمرها معاقة ... وعلى العموم يا بو ناصر ، لا تستعجل فكر واستخر ، وبعدين رد عليّ .
* * *
الأب والأم ، في حيرة ، هل يفرطون بهذا الزوج المدمن ، أم يرفضونه وتظل إبنتهم كما هي معاقة وعانسة !
الأب : وش رايك يا أم ناصر ، تراني والله احترت ؟!
الأم : والله يا بو ناصر إني زيك محتارة ما ني دارية إيش اسوي حسبي الله ونعم الوكيل .
الأب : يا أم ناصر ... موهو وقت بكاء ، فكري معي ، واستخيري ، والله يكتب الي فيه خير وصلاح لبنتنا حبيبتنا الغالية .
الأم : يا بو ناصر... هذا أمر لازم نفاتح فيه بنيتي أمل ، وهي الآن كبيرة وعاقلة ومدرسة ، ولازم يكون الرفض أو القبول منها هي ومحض حريتها .
الأب : أكيد يا أم ناصر .
( الأب والأم يفاتحون أمل بحقيقة الموضوع ، فتصدم أمل بعريس المستقبل الذي بدل أن يأتيها في زيّ أبيض كالخيال والسحاب ، وهو راكب فرسا أبيضا ، يحملها نحو جزيرة الأحلام ، وإذا بعريس المستقبل مدمن مخدرات ، ياللشماتة والسخرية !! ) .
الأم : هاه .. يا بنيتي وش قلتي ، ترى العرس مو غصب .
أمل ( صامتة ) : !
الأب : اسمعي يا بنتي ترى أنتي في عيونا ، ولا تحسبي أنّا ملينا منك وأنا أبوك ، بالعكس أنت نور البيت وسراجه ، الله لا يخليك منه ، ولكن ما فيه بنت إلا ومستقبلها في الزواج .
أمل : مستقبلها يبه في مدمن مخدرات !!!
الأب ( يتقطع قلبه ) : خلاص خلاص ... نبطل فكرة الزواج من هذا الرجال .
الأم : وراك يا بو ناصر ... خل بنيتي تفكر ولا تستعجل ، وهي ما تدري وين الله كاتب لها الخير فيه .
* * *
أمل ... تفكر وتفكر ، وتتأمل ، وتقيس الأمر ، وتفكر بنظرة الناس لها دون زواج ، وتتساءل :
- هل سأظل هكذا عانسة ؟
- من سيقبل بي بعد هذا الشاب ؟
- من يدري لعله يهتدي على يديك ، ويكون أفضل من الكثير ؟
- أنا صبرت وصبرت ، واجتهدت ، فلماذا لا أصبر هذه المرة لعل الفرج الأخير بعدها ؟
وهكذا أخذت أمل تقلب تفكيرها ، وتتفحص أوراقها ، فوجدت أنه لا خيار أمامها ، والناس والدنيا لا ترحم .
فقررت الموافقة على هذا الشاب العاطل المدمن ، وفعلا تم الزفاف ، على شاب تحوم حول عينيه بقع سوداء من الشراب ، ورائحة الدخان تحيط به من كل صوب ، لا صلاة ، ولا أخلاق .
ولكن أمل ، رمت بورقتها الأخيرة في وجه الطوفان ، وهي واثقة بالله أنه لن يضيعها .
أخذت أمل تصرف على نفسها وزوجها من مالها الخالص ، والزوج عاطل باطل ، أحيانا يضربها ويعيرها بألفاظ لا تطاق ( يا مشلولة - يا معاقة - يا قبيحة ) ليحصل على حفنة من المال كي يشري بها أبرة مخدرة ، أو زجاجة خمر قذرة .
وأمل صابرة محتسبة لوجه الله ، فهذا هو قرارها الأخير ، ولن تتراجع عنه مهما كان ، وزوجها بالصبر والإيمان سيفتح الله على قلبه ، ولا أحد يعلم متى تأت الهداية من عند الله .
وتجلس أمل تبكي وتتضرع عند أقدام زوجها ، وتقبل يديه ، وهي تبكي ، وتقول له أرق الكلمات ، وأعذب العبارات ، تترجاه أن يصلح نفسه ، من أجل زوجته التي تحبه ، ومن أجل أولاد المستقبل ، ولأجل عش الزوجية السعيد .
* * *
أمل تصلي ، تسجد ، تبكي ، تدعو الله ، أن يصلح زوجها ، ويمن عليه بالهداية ، أمل كلها أمل بالله وثقة بأنه لن يضيعها .
وفي يوم ... يدخل زوجها ( مطلق ) والشماغ على كتفه ، وقد ارتسمت على وجهه تجاعيد الانحراف والضياع ، دخل وأغلق باب الغرفة على نفسه !
طرقت أمل الباب بكرسيها المتحرك ، ثم دخلت إلى الغرفة ، وأخذت يد زوجها تقبلها ، وتقول :
فديتك يا عمري ، إيش فيك ؟
الزوج ( يجهش بالبكاء ) !
أمل ( تبكي لبكاء زوجها وتقبل يديه وتحتضنها ) !!
الزوج ( وهو يبكي ) : يا أمل والله بهذلتك معايّ ، ما تستاهلين واحد حقير مثلي .
أمل ( في إشفاق على زوجها ) : ليش تقول كذا يا عمري ، والله أنا أحبك وضحيت بكل شيء من أجلك .
الزوج ( يزداد بكاءً ) : أنت يا أمل تعذبينني بهذا اللغة التي أن لا استحقها أنا نذل أنا ساقط !!
أمل : لالا ... لا تقول عن نفسك كذا يا حبيبي ، أنت إنسان رائع ، وفيك خصال كثيرة حلوة ، بس تحتاج إن تعالج نفسك من المصيبة التي تعصف بحياتنا .
الزوج : أنا مليت من الحياة ، ودي أموت ، أن لا استحق الحياة .
أمل ( تبكي وهي تشفق على زوجها ) : لالا ... بعيد الشر عنك يا حياتي ، أموت أنا ولا أنت ، أنا من لي غيرك في هذه الدنيا ؟!
الزوج : الله لا يخليني منك .. أنا ما عرفت قيمتك يا أغلى إنسانة في عمري .
أمل ( وهي تقبل يد زوجها ) : يا حبيبي ... ليش ما نبدأ سوى ، أنا ما راح أقصر عليك بأي شيء أملكه كل شيء لي فداك يا عمري ، وأنت لازم تروح للمستشفى تعالج السموم التي أدمن عليها جسمك ، ثم لا تنسى طاعة الله ، الصلاة ، التوبة ، الدعاء ، البكاء ، والله لن يضيعك يا عمري ، الله رحيم ولطيف بعباده .