عرض مشاركة واحدة
قديم 05-01-04, 11:55 pm   رقم المشاركة : 3
أباالخــــــيل
عضو مميز





معلومات إضافية
  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة : أباالخــــــيل غير متواجد حالياً

نستخلص مما تقدم أن المقرر لم يعض أصول الاختلاف وقواعد التعامل مع المخالفين وعلى رأسها:

1. أن الاختلاف سنة كونية: فلا يمكن لأي منظومة فكرية مهما أوتيت من الإمكانيات ووسائل الاتصال وقدرات التغيير أن تقضي على الاختلاف البشري أو توحد اتجاهات الإنسانية أو تحمل الناس على مسار واحد، ذلك أن الاختلاف سنة كونية ملازمة للحياة الإنسانية كما قال تعالى {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} ([42])، وسيبقى هذا الاختلاف كما قال تعالى (َلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)([43])
ولما بعث الله الرسل وأنزل معهم الشرائع لم يبين فيها إلا القواعد العامة التي يحتاجها الناس في حياتهم، وبعض التفاصيل الثانوية، ولم يشأ الله تعالى أن يحسم كل مظاهر الاختلاف البشري، بل بين بعض ما يختلف الناس فيه وأعرض عن بعض كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}([44])، وقال تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}([45]).
فاقتضت حكمة العليم القدير أن تبقى مفاوز ظنية مفعمة بالاحتمال، يذهب الناس في تفسيرها كل مذهب، وتطلُّب القطع في هذه المساحات لون من تكلف المحال، وستبقى مساحة من النص الديني لا يمكن القطع بتفسيرها قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}([46]) وستبقى شريحة من الأحكام الشرعية لا يتمكن كثير من الناس إلى حكم جازم فيها قال صلى الله عليه وسلم (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)([47])

2. تعميق الإيمان بالتعددية: بما يعني الإقرار في الاختلاف ومسئولية الإنسان عن حرية اختيار قال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ([48]) وقال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}([49])، فإذا كان ذلك في أصل الدين المقطوع به فكيف بالقضايا النسبية والظنية.

3. نبذ الزهو المذهبي: عبر تعميق أخلاقيات التواضع الفكري، خصوصًا في القضايا الظنية التي تتجاذبها الأدلة، فبعض التيارات الفكرية المنظومات تتشبع بوثوقية مطلقة تحملها على تنقص المخالف والشعور بأن الآخرين ليسوا على شيء، وتلك من سمات أهل الكتاب التي حذرنا الله منها فقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}([50]) بل يصل الزهو المذهبي ببعض أتباع المذاهب الفكرية إلى تصوير قدرهم الكوني في كونهم ولدوا بهذه البقعة أو تلك، على أنه أشبه باصطفاء رباني حيث أنعم الله عليهم أن ترعرعوا في أرض الحقيقة حائر بين ألوان الضلال إلى درجة توهم مزيد الاختصاص بالله ودينه وتلك أيضًا من انحرافات أهل الكتاب التي حذرنا الله منها بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}([51])، ولذلك لما افتخر الصحابة واليهود وادعى كل فريق اختصاصه بالله، عاب الله الفريقين، وبين أن الشأن ليس بالأمنيات والمفاخرة فقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ}([52])، قال ابن كثير (روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة)([53])، وإضافة إلى ما في الزهو المذهبي من بغي على الآخرين وغمط لهم فإنه يتحول إلى عائق يحرم من تصحيح رأيها والتناصح بين أبنائها.

4. تكريس قيم التعايش: بدلا من تضخيم مشروعية قمع المخالف، ذلك أن الاختلاف سنة كونية كما سبق التأكيد، وسيبقى ما بقي الناس، كما احتضن المجتمع الإسلامي في تاريخه المديد شتى أنواع الطوائف والملل، فضلاً عن خلافات الداخل الإسلامي.

5. عدم بخس المخالف: بما يعني الإقرار بما معه من الحق، وعدم غمط ما معه من الصواب الذي يحمله ذلك أن أكثر ما يقع بسببه الاختلاف هو بغي كل فريق على الآخر ورد الحق الذي معه بسبب ما خالطه من الباطل، وكان المفترض فرز المضمون الذي يقدمه كل اتجاه وعدم أخذه كله أو رده كله، قال ابن تيمية: (عامة ما تنازع فيه الناس يكون مع هؤلاء بعض الحق، وقد تركوا بعضه، وكذلك مع الآخرين، ولا يشتبه على الناس الباطل المحض، بل لا بد أن يشاب بشيء من الحق، فلهذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فإنهم هم الذين آمنوا بالحق كله، وصدقوا كل طائفة فيما قالوه من الحق)([54])

6. مراعاة الوسع: وذلك عبر بث الوعي بأن المعيار الشرعي هو استفراغ الوسع وبذل الجهد في الوصول إلى الحق، فإن نجح الإنسان في الوصول للحقيقة ضوعف له الثواب وإن أخفق كوفئ بما بذله من الجهد، ولذلك فكافة المختلفين الذين بذلوا وسعهم دائرون بين الأجر والأجرين، ولذلك قال ابن تيمية (إذا أريد بالخطأ الإثم، فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب). مجموع فتاوى ابن تيمية (13/124).



يتبع...............







التوقيع


أيها ذا الشاكي وما بك داءٌ * كن جميلاً تر الوجود جميلا