أما وضع ضريبة فهذا حرام
وأما وضع حد فهذا فيه تسعير
فائدة عن التسعير :
أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير فعلى ولي الأمر أن يسعر عليهم فيما تحقق فيه الشرطان المتقدمان تسعير عدل، لا وكس ولا شطط، فإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.
بقيت الإشارة إلى حكم التسعير في أجور العقار وهل هو داخل في حكم الممنوع أم الجائز؟
تقدم فيما سبق أن التسعير لا يجوز إلا بتحقق شرطين:
أحدهما: أن يكون فيها حاجة عامة لجميع الناس.
الثاني: أن لا يكون سببا لغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب.
والمساكن المعدة للكراء ليست فيها حاجة عامة لجميع الأمة، بل الغالب من الناس يسكنون في مساكن يملكونها، وإذا كان هناك غلاء في أجرة المساكن المعدة للكراء في مدن المملكة فليست نتيجة اتفاق أصحابها على رفع أجار سكناها ولا الامتناع من تأجيرها، وإنما سببه في الغالب قلة العقار المعد للكراء، أو الكثرة الكاثرة من طالبي الاستئجار، أو هما جميعا، فتسعير إجار العقار بهذا ضرب من الظلم والعدوان، فضلا على أنه يحد من نشاط الحركة العمرانية في البلاد، وذلك لا يتفق مع مصلحة البلاد وما تتطلبه عوامل نموها وتطورها، وبالله التوفيق.
قال ذلك وأملاه الفقير إلى ربه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف مصليا على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى: الحمد لله وحده، وبعد:
فقد جرى بيننا وبين بعض إخواننا طلبة العلم بحث في مسألة التسعير وحكمه، ورغب إلي الكتابة فيه، فاستفتيت الله تعالى وأمليت فيها ما يلي: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فغير خاف أن التسعير من المسائل التي اختلف في حكمها العلماء.
فذهب جمهورهم إلى منعه مطلقا، مستدلين على ذلك بما روى أبو داود وغيره، عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال: « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله، سعر لنا، فقال: بل أدعو الله ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر لنا، فقال. بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة » وبما روى أبو داود والترمذي وصححه ، عن أنس قال: « غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا. يا رسول الله، لو سعرت فقال: " إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة »
وهذا قول الشافعي، وهو قول أصحاب الإمام أحمد ؛ كأبي حفص العكبري، والقاضي أبي يعلى، والشريف أبي جعفر، وأبي الخطاب، وابن عقيل، وغيرهم، قال في [الشرح الكبير]: وليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون، وهذا مذهب الشافعي، وكان مالك يقول : يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس: بع كما يبيع الناس وإلا فاخرج عنا، احتج بما روى الشافعي وسعيد بن منصور عن داود بن صالح عن القاسم بن محمد عن عمر، أنه مر بحاطب في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له مدين بكل درهم، فقال له عمر : قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت؛ لأن في ذلك إضرارا بالناس إذا زاد، وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع.
ولنا ما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه، أنه غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر فسعر لنا، فقال: « إن الله هو المسعر، القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال »
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، وعن أبي سعيد مثله.
فوجه الدلالة من وجهين:
أحدهما: أنه لم يسعر، وقد سألوه، ذلك ولو جاز لأجابهم إليه.
والثاني: أنه علل بكونه مظلمة والظلم حرام إلى آخر ما ذكره.
وأجابوا عن منع عمر رضي الله عنه حاطب بن أبي بلتعة : أن يبيع زبيبه بأقل من سعر السوق، بأن في الأثر: أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال: إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع. وقالوا بعد ذلك في توجه المنع: بأن الناس مسلطون على أموالهم فإجبارهم على بيع لا يجب، أو منعهم مما يباح شرعا ظلم لهم، والظلم حرام، فالتسعير بمثابة الحجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري، برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكن الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى: { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وذهب بعضهم: إلى جواز التسعير إذا كان للناس سعر غال فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك أو بأنقص.
واحتجوا: بما رواه مالك في [موطئه] عن يونس بن سيف، عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له في بالسوق، فقال له عمر : إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا، قال مالك : لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس لرأيت أن يقال له: إما لحقت بسعر الناس، وإما رفعت، وأما أن يقول للناس كلهم، يعني: لا تبيعوا إلا بسعر كذا فليس ذلك بالصواب.
كما ذهب بعضهم: إلى أن للإمام أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب، روى أشهب عن مالك : في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن بكذا، ولحم الإبل بكذا، وإلا أخرجوا من السوق، قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن لا يأمرهم أن يقوموا من السوق.
واحتجوا على جواز ذلك: بأن فيه مصلحة للناس بالمنع من غلاء السعر عليهم، ولا يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري.
وردوا على المانعين منه مطلقا: أن الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: « إن الله هو المسعر القابض الباسط » إلى آخره، قضية معينة وليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع عن بيع ما الناس يحتاجون إليه، بل جاء في حديث أنس التصريح بداعي طلب التسعير، وهو ارتفاع السعر في ذلك، وقد ثبت في [الصحيحين]: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك، فقال: « من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، لا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد »