بسم الله الرحمن الرحيم
حكمة الله في الحياة انه ينعم ويعطي من يشاء بغير حساب, ويمنع ويمسك عن من يشاء. ولا يعني هذا انه سبحانه ليس بعدل؛ كلا, وإنما تصديقاً لقوله عز وجل: (أفحسب الناس ان يتركوا؟ ان يقولوا ءآمنا وهم لا يفتنون؟) وقوله: (فلنبلونكم حتى نعلم الصابرين منكم). فالله عز وجل ان انعم على العبد فإنما ينعم عليه ليبتليه بنعمته وينظر الى مدى ايمان ذلك العبد بتصريف نعم الله عز وجل فيما يحب ويرضى, وإن ابتلى العبد فإنما ينظر الى مدى صبر عبده على بلواه؛ والله سبحانه يضرب لنا-بغيرنا-وفينا-لغيرنا- امثلة عديدة لمن يتعظ ويعتبر, ولذلك الحليم من يتعظ بغيره ويعتبر بمن كان عبرة من قبله!
مازن وعبدالله وإبراهيم ابناء عمومة, من اسرة واحدة, عاشوا في الصغر تحت سقف بيت واحد ورب اسرة واحد, وهو الجد. كان يربطهم ببعضهم رابط الدم والإخاء ورابط الصداقة والوفاء؛ مرة الأيام وشاء الله لؤلاءك ان يتفرق جمعهم فأصبح لكل واحدٍ منهم بيتاً مستقلاً يعيش فيه في اطار الأسرة. كان عبدالله وإبراهيم صديقين حميمين لا يكاد يفارق احدهما الآخر لتناغم خلقهم, اما مازن فقد كان نوعاً ما حاد المزاج وذو لسانٍ سليط لذلك لم تكن صداقته بأبناء عمومته صداقة ذات رابط قوي. كانت اسرة مازن بحالة مستورة وحياةٍ ميسورةٍ ولذلك حظي مازن بدعم مادي من اهله وبتشجيع اسري ليتفاضل على ابناء اعمامه. ونتيجة للحرية المطلقة التي تمتع بها مازن لم يهتم بالدراسة كثيراً ولذلك ترك المدرسة في مرحلة الإعدادية ولم يكمل دراسته وعلى العكس من ذلك اراد عبدالله وإبراهيم ان يواصلا دراستهما ومن اجل ذلك انتقلا من مدرسة الى اخرى للإلتحاق بالثانوية فلما اكملا الثانوية التحقا بالجامعة.
كان لمازن ابا ثرياً ويقضي وقته في جمع المال وتحصيله مما اثر ذلك سلباً على اسرته, حيث انه ترك الأمور لأم مازن تتولاها. ام مازن هي الأخرى لم تكن على علاقةٍ طيبة مع اسرتي عبدالله وإبراهيم ولذلك غضبت عندما ترك ابنها--مازن المدرسة ولم يهتم بها. ارادت ام مازن ان يكون ابنها متفوقاً على ابنا عمومته بكل شيء لذلك حاولت ان تعيده الى المدرسه, ولكن كونه نشأ مدللا ومُلِّكَ قراره منذو صغره لم تجدو تلك المحاولات. كان لمازن اخت تدعى سارة وكانت على عكسه تماماً حيث كانت ذا طباع طيبة وكانت محبة للمدرسة ومتفوقة في دروسها. فبعد ان اكملت هي الأخرى الثانوية ارادت ان تلتحق بالجامعة مع ابنت عمها ليلى-اخت ابراهيم- ولكن فكر مازن المغاير وهمجيته حالتا دون دراست اخته ومنعها من مواصلة المشوار. متحججاً ومتعذراً بأن الدراسة الجامعية تتنافى مع تعاليم الدين الحنيف, وهو منه بعيد, اراد ان يقنع امه بتلك الحجج لكي تمنع اخته من الدراسة! كانت الأم تدعم موقف سارة وتؤيدها لإكمال الدراسة ولكن دون جدوى لكون مازن حضي بحرية التصرف. فكان تارة يوبخ اخته بكلام لا يليق بها وتارة يقوم بالتحريش عليها. قال مازن مخاطباً لإخته: ما يدرس في الجامعة الا السواقط! قل ادبهن وحياءهن. فقالت له: لم تكن ليلى يوماً ساقطة ولم يكن اولاد اعمامك سقط كما تدعي! قال معقباً: بل هم! قالت سارة: إن من يقول مثل هذا الكلام على اشخاص عرفوا بالخير فإنما هو ساقط بنفسه! إغتاظ من كلامها وصفعها على خدها. لم يكتف بصفعه لخد اخته بل ذهب الى امه فقال لها: ان اختي قالت بأني ساقط. اخذ التعامل مع سارة منعطفاً لم يكن متوقعاً من الأم لكونها ارادت ان لا يذكر اولاد اعمامها وبناتهم بخير ابداً, فأيدت بعد ذلك ودعمت موقف مازن اللامنطقي ظناً منها بان سارة تكره مازن. كانت سارة, والتي حضيت بخلق رفيع, لا تتوانى ان تقبل يد اخيها كل صباح وتحبه كما لو انها تحب نفسها لكونه الأخ والشقيق الوحيد! ولكن مازن لم يكره اخته لسوءٍ فيها ولكن لكونه لا يريد ان تجتمع محبته ومحبة ابناء عمومتها في قلب واحد واتخذ من الجامعة حجة عليها؛ فظلت سارة تبكي الأيام والليالي ثم شكت يوماً ما بها لإبنت عمها. علم ابراهيم وعبدالله بما يفعله مازن واستاءا منه وأرادا نصحه فكتب اليه عبدالله الذي لم تكن له اخت:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك ورحمة الله وبركاته اخي مازن:
بإسمك الهي أدعوك مبتهلاً***من لي مجيرٌ الهي سواك
تعطي لعبدك من الخيرات ممتناً***وترزق العبد بالخيرات إياك
لك الحكم دائم والأمر مكتملاً***إني أثيم فأرجوك رحماك
سلام لك في الإسلام مبتدئا***حي بالخير من بالخير حياك
اكمل الله لك ما كان منتقصاً***يهنا لك الأخت والأخت تهناك
إدفع الشر عنها والوجه مبتهجاً***ولا تخاصم من بالحب ارواك
الن بقلبك لحرٍ انت مالكه***لا تجفأ الحر فليس الحر يجفاك
واعرف الخير من قبل تعدمه***واشكر الله على ما الله اعطاك
وارفق بدمع من العينين منهمل***ليت أني لدمع الأخت جفافا
من دونها الوقت اقضيه ممتلاً***فاحمد الله فيما الله منَّاك
نصح اليك من القلب مصدره***لا تغضب الله إياك إياك
قرأ مازنٌ الرسالة ولم تأثر فيه شيئاً ثم كتب اليه مجيباً عنه:
وعليك السلام لم اكن يوماً اعلم انك من سلالة المتنبي! ولو كنت تستحق الأخت لكان وهبك الله اختً, ولكنك لست بأهلٍ لها ولذلك انت لا تعلم شيء في عالم الأخ والأخت. كان الأجدر بك ان تمنع ابنت عمك ليلى من الذهاب الى الجامعة وليس اقناعي بأن افرط في اختي واتركها تلطخ نفسها بأدران الجامعة بحجة العلم؛ واعلم انك لن تجني شيئاً من هذا ان كانت لك هناك مئآرب!
فرد عليه عبدالله:
اخي والله ليست لي أي مئآرب فــ سارة اختي كما هي اختك واني لحريص على ان ادفع عنه الشرور كما لو اني ادفعها عن نفسي. لا تنسى ان سنين الطفولة قضيناها سوياً في مكان واحد ولو اني مازلت في ذلك العمر لافتكرت اننا جميعاً اخوة من اب واحد وام واحدة! اخي مازن قد ربما لم يرد الله ان تكون لي اخت ولكن املي بالله لن ولم ينقطع ابداً, ولو كانت سارة يوماً اختي لأريتك الأخوة بمعناها الصحيح, سامحني إن بدر مني سوءاً.
مازنٌ لم يرتح ابداً لكلمات عبدالله فبدأ يسأل نفسه عن كيفية وصول الأخبار الى عبدالله. ذهب مازن الى اخته فسألها عن ما اذا كانت اخبرت عبدالله بذلك فأجابت بـ لا. فقال لها: فكيف علم اذاً؟ "وكيف لي ان اعلم" اجابت, "ولكن قد ربما اخبرته ليلى او ابراهيم, لأني اخبرت ليلى!" اضافت. لم يصدقها مازن ودخل الشك في صدره ما اذا كانت سارة تراسل عبدالله سراً! قال لها مازنٌ: كلا, بل انتِ من اخبره! لم تقبل سارة ذلك الإتهام, ولما ردت ذلك الإتهام استحلفها بالله فحلفت. رغم انها حلفت بالله الا ان مازن وبخها بكلامه وطلب منها بأن تأتيه برسائل عبدالله (حسب ظنه)! اشتكت سارة مازناً الى امها لكونه يتهمها ويستنقص من عفتها-وهو يدعي انه يدافع عن عرضها؛ فسبحان الذي له الكمال. فحاولت الأم ان تضع لذلك حداً الا ان مازناً استطاع ثانية ان يوهم امه بأنه هو صاحب الحق! مازن لم يكتفي بمنع اخته من الدراسة واستحلافها؛ لا, بل استمر بمضايقتها ومطالبتها بأن تظهر له الرسائل. ظلت سارة على تلك الحالة لفترة من الزمن فتمنت لو انها لم تكن شيئاً مذكوراً.
وفي ذات يوم ارادت ام مازن ان تذهب الى بيت اهلها فأخذها مازن بسيارته الى المكان الذي تقصده ثم عاد الى البيت تاركاً امه في بيت اهلها. مع رجوعه الى المنزل رأى عبدالله-خارج البيت- يتكلم مع سارة ولم يكن عبدالله يعلم بان سارة اتهمت بانها تراسله او بشيء من هذا القبيل. لم يكن عبدالله يعلم بقدوم مازن فانصرف, ثم اتى مازن الى اخته فسألها عن سبب مجيء عبدالله فأجابته: إنما كان يسئل عنك. قال مازن: تكذبين! ولما لم يأت عندما كنت موجوداً وانصرف لما قدمت البيت؟ فصفعها على وجهها وتركها تبكي ثم خرج من البيت ليذهب الى عبدالله ولكن لم يكتب الله له ان يصل الى عبدالله في ذلك اليوم فقد تعرض لحادث سير في طريقه وعلى اثره اُسعف الى المستشفى. تلقت سارة اتصالاً من المستشفى بأن مازن في الطوارئ, ففزعت فزعاً شديداً لكونه اخوها الوحيد وذهبت الى المستشفى. سألت سارة عن حالته فقالوا لها انه لم يصب بإصابات بليغة ولكنه كان في غيبوبة لنزيفٍ اصابه, فتبرعت له بالدم! كان ذلك خبراً مفزعاً لأم مازن ولأولاد اعمامه وبناتهم فهلعوا جميعاً الى المستشفى لكي يطمئنوا على حالته. لما ان وصلوا الى المستشفى طلب الأطباء منهم كذلك ان يتبرع احدهم له بدم, فتبرع له عبدالله؛ ولم يكن يعلم انه متهوم وان ذلك الحادث كان-في نظر مازن- هو من سببه! افاق مازن من غيبوبته وحمدوا الله وشكروه على انه لم يصب بإصابات بليغة. سأل عبدالله عن كيفية حدوث الحادث واين, فأجابته ام مازن بأنها لا تعلم شيئاً وقالت له بأن سارة هي من وصلت اولاً ولعلها هي من تعلم. ذهب عبدالله ليسئل سارة فنظرت الى مازن, وقد تغيرت ملامح وجهه, فلم ترد له ان يغتاظ او ان يزداد سوءً في حالته فأعرضت عن عبدالله ولم تجبه. ذهب عبدالله ليسئل مازن فأعرض عنه هو الآخر ولم يعلم ان عبدالله لم يبخل عليه بدمه. استغرب عبدالله من هذه الأساليب وخرج وهو يتسائل عن الأسباب, ولكنه لم يهتم بها كثيراً فتجاوز عن ذلك وقال في نفسه: لعلهم مفزوعون بعض الشيء.