أحمد عبدالرحمن العرفج ... جريدة المدينة الثلاثاء 21 / 9 / 2010
تَربطنا نَحنُ البُسطاء بـ«الخطوط السّعوديّة» عَلاقة استثنائيّة، فهَي لا تَعبأ بمُعاناتنا ولا بنَقدنا، ونَحنُ تَعوَّدنا عَلى عَجزها، وفَوَّضنا أمرنَا إلى الله، ولَم يَبقَ أمَامنا إلَّا الخيل والبغَال، والحمير والجِمَال، لتَنقلنا إلى الوجهة التي نُريدها، تَجنُّبًا للضَّغط والسُّكَّر، وصنُوف الذُّلِّ مِن البَشَر.
هَذه الشَّركة؛ التي يَفوق عُمرها تَاريخ الصِّراع الإسرائيلي الفلسطيني، لَم يَكتسب بعض منسوبيها الخِبرة إلَّا في المُماطلة، وتَعطيل مَصالح النَّاس، وأضَاعت الفُرصة تلو الأُخرى؛ للخروج مِن مَسالك ومَآزق البيروقرَاطيّة، رَغم أنَّ هَذه الفَترة -التي تُناهز القَرن- شَهدت تَأسيس دول حَديثة مِن العَدَم، وإنشَاء كَيانات اقتصاديّة وسياسيّة كُبرى. ورَغم أنَّها تَزعم بتَسارع خطواتها في هَذا العَصر الجَديد، فهي لا تَختلف عَن أي إدَارة حكوميّة لَدينا، مِن حيثُ الرُّوتين والتَّسويف والتَّعقيد، رَغم أنَّها تَتقاضَى أموَالًا طَائلة، وليست مُجرَّد رسُوم رَمزيّة، كَما تَفعل الإدَارات الأُخرى.
إنَّ رحلة مُعاناتنا تَبدأ حِين تَلتصق الآذَان بالهَاتف فَترة طَويلة، بانتظَار رَد موظَّف الحَجز، الذي لا يَملك إلَّا الكَلام المَعسول، بسبَب تَسجيل المُكالمة، وحِين تَتعذَّر الاستفَادة مِن الاتِّصال؛ بسبَب خَلَل مَا أو عُطل النِّظام، نَذهب إلى مَوقع الشَّركة عَلى الأنترنت، وإذَا لَم نَجد الرِّحلة المُناسبة، أو نُصدم بحَجب الرَّحلات التي يُمكن أن نُسجِّل أسماءنَا فيها عَلى قَوائم الانتظَار، نَتسلَّح بالدُّعاء، ونَذهب إلى أحد مَكاتبها، ويَا لَه مِن مِشوَار. فمَا أن تَدخُل المَكتب وتَأخذ مَوقعك مَع العَشرات -وأحيانًا المِئَات- حَتَّى تَكتشف مُفارقات، لا تَنفع مَعها التَّوسُّلات ولا الاستجدَاءات، لأنَّ البُطء الشَّديد يُوتِّر الأعصَاب، ويَستفزّ حتَّى أُولي الألبَاب، ولا أظن قَارئًا يَستغرب إن قُلت لَه: إنَّ مُجرَّد الحصول عَلى مَعلومةٍ بَسيطة، أو استفسارٍ عَابر قَد يَستغرق سَاعات.
وقَد بَات مِن المَألوف أن تَجد موظّفًا أو اثنين؛ مُنهمكين في إنهَاء إجرَاءات المُسافرين، وفي المُقابل تَرى بقيّة زُملائه يُضيِّعون الوَقت في «طق الحَنَك»، أو يَتحلَّقون حَول زَميل لَهم، يَتبادلون النّكات عَلى مَرأى مِن المُنتظرين الغَاضبين، وتَراهم يَخرجون زرافات ووحدانًا، إمَّا لإجرَاء مُكالمة هَاتفيّة خَاصَّة، أو لشُرب سِيجَارة. وحِين تَذهب للحَديث مَع مُدير المَكتب؛ الغَارق في قَضاء مَشاغله الخَاصَّة، أو في عَمل حجوزات خَاصَّة بأصدقَائه ومَعارفه، أو أصدقَاء أصدقَائه ومَعارف مَعارفه، وإن أظهَر بَعض التَّجاوب مَع الشَّكوى مِن البُطء، وسوء تَنظيم العَمل، سيَقول لَك «استرِح»، وكأنَّك تَشكو لَه بأنَّك فررتَ مِن مَنزلك أو عَملك؛ لتَبحث عَن الرَّاحة في هَذا المَكتب الكَئيب.
إنَّ اللوم لا يُوجَّه لمُوظَّفي الخطُوط السّعوديّة، فهُم جُزء مِن تَركيبتنا الاجتماعيّة المُعقَّدة، التي تَنظر إلى العَمل كوَظيفة؛ لمُجرَّد قَتل الوَقت، والحصول عَلى رَاتِب دُون بَذل أي جُهد، ممَّا يُحتِّم عَلى كُلِّ وَاحدٍ مِنهم أن يُواجه تَذمُّرك بالنُّصح، الذي يَخدم إهمَاله قَائلًا: «اصبر.. إنَّ الله مَع الصَّابرين». فهَل يَليق بنا بَعد كُلّ هَذا الزَّمن، أن نَضطر لقَضاء اليَوم كُلّه في الخطُوط السّعوديّة، مِن أجل عَمل حَجز أو شِرَاء تَذكرة..؟! إن كَان لَا بد مِن ذَلك، أقترح أن يُستحدث بَند جَديد في الإجازَات الاضطراريّة نُسمِّيه: «بَند مُراجعة الخطُوط السّعوديّة».
حَسنًا.. مَاذا بَقي..؟! بَقي القَول: إنَّني لَم أكتب مَا كَتبته مِن بَاب التَّرف الفِكري، بَل لأنَّني مِن الضَّحايا المُخضرمين للخطُوط السّعوديّة، ولَديَّ الآن في الدُّرج ثَلاث تَذاكر، تَعذَّرت الاستفادة مِنها في السَّفر، ولا أعرف مَاذا أفعل بها، لأنَّ استعادة ثَمنها -بَعد خَصم الرِّسوم- قَد تَستهلك اليَوم بطُولهِ.. ومِن الغَريب أنَّ الحَجز وشِرَاء تَذاكِر مِن شَركات الطَّيران الأُخرى؛ لا يَستغرق أكثر مِن خَمسِ دَقائق، فلِمَاذا أعيا هَذا الدَّرس البَسيط الخطُوط السّعوديّة كُلّ هَذا الزَّمن..؟!