الموضوع: لماذا نبالغ ؟!!
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-10-02, 05:42 am   رقم المشاركة : 5
حمد الخالدي
عضو محترف
 
الصورة الرمزية حمد الخالدي






معلومات إضافية
  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة : حمد الخالدي غير متواجد حالياً

قسم من الناس يجيش في أنفسهم جائش الاضطراب، فلا يجدون ملجأ لإطفائه إلا بإعمال إحدى المشاعر، إما أن يبطش بيده فتكاً وقتلاً وضرباً، وحركة ولعباً، وإما أن يرفس برجله ويركض ويحركها حركة، وإما أن يصيخ إلى أنغام وأصوات وما أشبه، وإما أن ينظر إلى مناظر مدهشة، أو منازه مطربة، أو أمور عجيبة، وإما أن يسوم لسانه في الرطب واليابس، سوم الماشية في الحشيش والخلاء، فيطلق مقوله رفعاً وخفضاً، وسباً وشتماً، ومبالغة وإغراقاً، فإن النفس الجائشة كالنار المحبوسة في التنور المسدود، لا تجد أبداً من أن تخرج من بعض ثقوبه، حتى تتنفس وتقذف بعض ما بها من الضغط، ولذا يهدأ الغضبان إذا استعمل بعض أعضائه استعمالاً خارجاً عن المعتاد.

المبالغة قسم من الكذب، إلا أنه كذب لا يؤاخذ به إذا لم يخرج عن حدودها المعروفة، فربما يبالغ الساهر في ساعة من الليل، فيقول ما نمت البارحة، وربما يخطو إلى فوق ذلك فيقول: ما غمض لي جفن في الشهر الماضي، وربما يُغرق فيقول: ما زار الكرى عيني في العام الغابر، إن الأخير - والحق - مبالغة بشعة لا يستسيغها الذوق، وإن اشتركت الثلاثة في كونها تخالف الحقيقة، وتنافي الواقع.

قد يقول المبالغ: إن فلاناً كالبحر جوداً، أو كالمزن كفاً، أو أفضل منه:

(فذاك يعطي ويبكي، وأنت تعطي وتضحك).

وقد يمثل وجهه بالشمس الضاحية، أو القمر ليلة البدر، وقد يشبّه المسلمين - وهم ستمائة مليون- بحفنة الكف، فيقول: ما قدر ما تصنع هذه الحفنة تجاه أعدائها الألداء...

الأفضل للرجل أن يترك المبالغة قليلها وكثيرها، إلا قدر ما يستلذه الواقع، ويستسيغه الطبع، ولا ينفر منه الذوق السليم، والذي أخال أن كراهة الشعر في الشريعة الإسلامية، بعض أسبابها: هي هذه المبالغات التافهة التي لا يزال الشعراء يستعملونها، والألطف أن كلاً من المبالغ والمبالغ فيه، ومن السامعين والناظرين في الدواوين، لا يفوتهم كذب المقال، وأن هناك مأرباً خفياً جعل الشعر ستاره المسدول، من رغبة أو رهبة، أو تفريغ خاطر، أو متعة بأوهام.

ويفوت المبالغ أن الواقع أظهر من أن يخفى تحت حواجب المبالغة والإغراق، إنا كلاًّ نعلم أن حاتم الطائي أجود من فلان وفلتان، ممن مدحهم الشعراء بمدائح هي غاية ما بلغ إليه فكر الشاعر، إلى غير ذلك من أوصافهم في البساطة والنجدة، والإقدام والاقتحام، والحسن والجمال، والخدم والحشم، والعلم والكمال.

وأما المبالغ في النثر فهو أسقط من المبالغ في الشعر، إذ ينصر الشاعر ناصر فيقول: أكذب الشعر أعذبه، أو أعذبه أكذبه، لكن المبالغ في القول لا يجد ناصراً في الأرض ولا في السماء، فلا يزال يبالغ، حتى يعرفه الناس بذلك، فتقتحمه العيون احتقاراً، وتشمئز منه النفوس صغاراً، وتتجافى عنه المسامع أنفة واستكباراً، فيعرف في الملأ بأنه ممن يجعل الحبة قبة، والذرة درة، والأرض سماءً، والقطرة ماءً.

ليعلم المتكلم، وليدرك الكاتب، أن المبالغة هجنة وعار ومنقصة، وإن ترك المبالغة أقرب إلى قبول الناس، والنفوذ إلى أفئدتهم من المبالغة، فإن الباطل لا يعلو وإن تعالى، ولا يكبر وإن تكبّر، وإن الحق هو خير وأبقى، وليترك كل منهما المبالغة إن أحب سمعته، وأكبر منزلته...

والمبالغ لا يؤمن جانبه على كل حال، فإن كان مادحاً أوصل الممدوح إلى الجوزاء، وإن كان ذاماً نزل به إلى الغبراء، وإن كان ناقلاً زاد في الحديث إن أحب الثرثرة، ونقص منه إن راقه الانتقاص، فهو كالأرجوحة التي لا تبقى على حال، وإنما تتأرجح بين الهبوط والصعود، والمترنح الذي يتمايل يمنة ويسرة ..

مشكلتنا أننا نبالغ في تقدير ذواتنا أكثر مما ينبغي ..

عذراً .... لقد أثرتي القريحة أيتها العربية ..
أتس مي ..







التوقيع

( بدلاً من أن تكتب ثلاثين نصاً , جرب أن تكتب النص ثلاثين مرة )
= = = = = = = =
(\__/)
(='.'=)
(")_(")