التميمي
كما تعلمون هناك فجوة تتسع مع الوقت بين علماء السلف والمجتمعات الإسلامية فرضها واقع العصر بإيجابياته وسلبياته كما فرضها العجز عن تبني فكر إسلامي مرن يتعاطى مع المتغيرات ويتماشى مع معطيات المرحلة القائمة والمستقبلية بحيث يمكن تلك المجتمعات من التفاعل مع واقع العصر ومتغيراته000 دون الإضطرار إلى التخيير بين التخلي عن التعاطي مع مكتسبات الحضارة القائمة 00أو التخلي عن الإسلام كمصدر للتشريع الإجتماعي والإقتصادي والحقوقي والمدني بشكل عام
س فهل ترون حتمية قيام حركه تصحيحية إجتهادية تفعل حقيقة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان ؟؟
ج- أخي الكريم أوافقك الرأي في ملاحظة اتساع الفجوة بعض العلماء و المجتمعات في بعض المشاهد منها مثلا اتجاه بعض الفقهاء إلى التوسع في الحظر و التحريم عند الاشتباه أو التردد مع أن الأصل أن القول بالحرمة يساوي القول بالإباحة في نسبة الحكم إلى الله تعالى و لهذه القضية نماذج كثيرة قد أعود لها في بعض الإجابات ، و التوسع في الاحتياط و الحظر يؤدي إلى تضييق المباح و هو الأصل في معاملات أو العاديات كما يقول الشاطبي ، و هذا لا يعني أن المطلوب هو المرونة بمعنى التهاون في حدود الشرياعة و حلالها و حرامها بل المطلوب فقط هو بذل الجهد في تحرير محل الفتوى و تحليله بحيث تنصب الأحكام على مناطاتها بدقة فإذا قيل بتحريم اللهو و أن حياة المسلم الأصل شغلها بالعبادة فنحن أمام تجاهل مباشر لمشروعية اللهو أو الساعة و ساعة كما في الحديث و الشأن هنا هو ضرورة تحرير ما يتنزل عليه التحريم حتى لا يتجاوز الحكم محل الحرمة إلى مواطن إباحة و حتى لا تنزل الأحكام على اللوازم و غير ذلك من أسباب توسيع الحظر و مثل هذا يقال في التعامل مع القطاعات الأخرى مثل المصارف أو الإعلام أو العلاقات الدولية ... و منشأ الخلل في الغالب هو سيطرة النزعة الفردية في الفتوى حتى في المؤسسات الجماعية و قد تداول الناس نماذج من الحوارات العلمية في بعض المجالس و سيطرة بعض الآراء المتشددة فيها بمجرد قوة الشخصية و نحو ذلك . و قد حدث بالفعل ما ألمحت إليه فقد تخلت بعض مؤسسات المجتمع عن التقيد ببعض الآراء الفقهية و قفزت مباشرة إلى البديل الغربي بعجره و بجره و كان يمكن تحليل عناصر الواقع و التعامل معها بدقة ، و هذه الجزئية بالضبط هي محور ما يسمى بأعمال الأسلمة في المجالات المختلفة فهي نوع من التعامل مع الحلول الغربية بتالتفريق بين عناصرها المباحة و عناصرها المحرمة ففي المصارف تتجه الجهود نحو استثمار المعارف العظيمة التي ابتكرتها المصرفية الحديثة لرفع كفاءة المال و استغلال لحظات وجوده بأقل أجزاء الزمن و مع استثمار هذه القدرات الحديثة تبقى الإضافة الإسلامية في السعي الحثيث نحو تطوير التعامل وفق مبدأ المشاركة في المخاطر و الربح بدلا من التعامل بالفائدة المجردة و الطريق صعب و طويل فهذا المسار يتطلب تطوير آليات هائلة للتحكم في مخاطر المشاركة و هو في غاية الصعوبة . و ما قصدته بهذا الاستطراد هو التمثيل على أن البديل للجمود و التشديد و الاحتياط هو الإيغال برفق في فهم عناصر الواقع و استثمار المباح منه و تعديل المحظور ، و هذا البديل يقوم في الأساس على الإبداع و التطوير و ليس بالضرورة على المرونة أو التهاون .
س- ثانياً : هل ترون أن التلقين الجامد للعلم الشرعي في مراحل التعليم العام وسيلة مقبولة لتحصين الشباب فكرياً وسلوكياً بما يمكنهم من الإقتناع بمرجعية الإسلام كفكر قادر على مجاراة الحضارات القائمة والتفاعل الإيجابي معها وليس التصادم معها 00بمعنى هل لمنهجية التعليم القائم القدرة على تفاعل الشباب مع الحضارات القائمة على أساس أن دينهم ليس كما يتصورون أو يصور لهم يمثل حاجزاً يقف دون تعاطيهم مع مكتسبات الحضارة بل هو أداة فاعلة تسهل التفاعل الإيجابي مع تلك الحضارات للتمتع بإيجابياتها وأقتناء خلاصتها للحاق بركب الأمم الأخرى 00بدلاً من التقوقع والإنزواء في الزاويا القصية المظلمة وشعورهم بمركب النقص في ظل حقيقة أنه ليس لمجتمعاتهم أي حضور أو فعالية أو مساهمة بإنجازات العصر الحضارية ؟؟
ج- لا أحد في ظني يرى أن التلقين نهاية التعليم بل يعتبرونه بداية لضبط العلوم و الإشكالية هنا التلقين واقعيا تحول إلى هدف فالمعلومة على هذا المنهج التعليمي وسيلة تقدم ليمكن استثمارها تدريجيا بينما الواقع أن المعلومة أصبحت غاية و ذلك من ناحيتين :
الأولى أن المعلومة التي تقدم ليست متناسبة مع أسئلة الواقع و إشكالياته فالطالب قد يعيش عمره دون يستطيع بناء عقلية فقهية تحليلية تركيبية أي قادرة على هضم الفروع و المعلومات الخام ثم استخلاص المبادئ منها ثم تحليل الوقائع و الربط بينها و إذا لم تتشكل هذه الملكة فالمعلومات تبقى ذخيرة أرشيفية جامدة و هذا هو الواقع في قطاع من الناشئين على التلقين ، و ترتب على هذا أن المعلومات - في مجال العقيدة مثلا - لا يستطيع الحافظ أن ينفذ من خلالها إلى الإشكاليات العقدية المعاصرة ، بل وصل الأمر إلى اعتقاد طائفة من الحفاظ أن العلم الشرعي شيئ آخر غير الفكر و لهذا يتحسس بعض طلبة العلم من كلمة الفكر أو الثقافة و لو أجهد نفسه قليلا لاكتشف أن الفكر أو الثقافة في النهاية هي إما أخبار أو قيم و إنشاءات و هذا يعني أن موضوعها و موضوع العلم الشرعي واحد فالموضوعات النظرية في العلوم الإنسانية يمكن عكس أي نتيجة فيها بحيث يصاغ منها سؤال فيكون جوابه نوع من الفتوى أو الخبر الشرعي عند الذي أجاب على السؤال فما دام المحل واحدا فهي متداخلة و يبقى مصدر الخلط هو عدم القدرة علىالربط بين العلم الشرعي التراثي و الإشكاليات الحديثة و هذا عجز عن تفعيل العلم و ليس تناقضا بين العلم و الفكر من حيث النسبة بينهما بغض النظر عن مخالفة هذه الفكرة للشريعة أو موافقتها لها ذلك أن الفكرة إذا تم نقدها و تجريدها مما يناقض الشريعة صارت الفكرة شرعية أو علما شرعيا ، و من هذا يتبين كيف يتسبب التلقين في تضييق مفهوم العلم بل و افتراض الصدام بطريقة مجملة تعود في النهاية إلى ما يشبه التوسع في تحريم المعاملات بمجرد الاحتياط رغم التعدي بتضييق مباح لم تثبت حرمته . و لهذا فأنا اتفق معك فعلا بأن نتيجة التلقين النهائية تنتهي إلى إضعاف العلم الشرعي و توهين اليقين .
ثالثاً : أخبرنا الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه بأننا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر
فهل ترون حفظكم الله أنه يحق لفئة من المجتمع مهما كانت مواصفاتها ومهما حسنت نواياها 00أن تتولى مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 00وهل لفئة دون أخرى أن تنبري لتكون المعنية الوحيدة عن حماية الفضيلة ومكافحة الرذيلة وأن تخضع مقاييس الفضيلة والرذيلة لمقاييس فئة رغم أن تلك المقاييس مختلف حولها بين أبناء الإسلام 00أو لنقل أنه مختلف حول درجات تصنيفها
أنا حسب علمي أن الفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه هو من أسس هيئة الحسبة
س- فهل تعتقدون أن حراسة الفضيلة ودرء الرذيلة يمكن أن يكلف به فئة من المجتمع في وقتنا الحاضر ؟؟ وهل ترون أن هذا يحضى بقبول المجتمع حالياً وفي المستقبل ؟؟
ج- طبعا يمكن أن يكلف بالحسبة فئة من الناس لكن الخلل في ضعف تنظيم مفهوم المنكر الذي يجب تغييره
و المشكلة التي تضاعف هذا الخلل في المملكة أن الجوانب الواسعة لحماية الفضيلة لم تنظم تشريعيا و قد ترك الفراغ التنظيمي في الاختصاصا و المسئوليات مساحة واسعة لممارسة المنكر و لنأخذ مثلا المساحة التي تغطيها أدبيات ما يسمى بالأخلاق التطبيقية مثل أخلاق الطبيب و المحامي و المهندس و الموظف و المحامي .. فهذا المجال لم يتم تنظيمه بشكل فعال و أدى ذلك إلى وجود انحرافات خطيرة في هذه المجالات لا تطالها يد المحاسبة بشكل فعال و كم اشتهر في المجتمع استغلال طبيب ما لمرضاه في جرائمة غير أخلاقية و ينتهي به المطاف إلى خطاب تنبيه أو نقل مع أن هذه الجرائم لو حدثت في مجتمعات أخرى لأدت إلى عقوبات لا تقل عن الحرمان المؤبد من ممارسة المهنة . في هذا الفراغ التنظيمي بدت الهيئات و كأنها تقاتل في مجتمع لا تعبأ مؤسساته بالفضيلة ، و هذا البعد مهم في الحديث عن تجاوزات الهيئات مع أن المحاسبة يجب ألا يستثنى منها أحد .
رابعاً : تعلمون حفظكم الله أن تشريع الحدود ينطلق من توفر مقومات محددة وفي إطار تطبيق شامل للإسلام 00فإن عجزت الدولة عن التطبيق الشامل فيمكن للمجتهد إسقاط حد ما 00وقد فعلها الفاروق رضي الله عنه عام الرمادة فعطل حد السرقة
وقد أشرت أنا هنا في مقال سابق إلى أن لدى بنوكنا كما يعلن المسؤلون اكثر من ثمانمائة مليار ريال لو حصلت زكاتها ووزعت بالعدل فلن يبقى من تضطره الفاقة للسرقة
كما أن عجز الأنظمة عن حل المشاكل بين أفراد المجتمع وأعتساف الواسطات والشفاعات وغمطها لحقوق البعض وأستلابها لتؤول للخصوم دفعت بالبعض إلى اليأس والإحباط والإجرام وارتكاب جرائم كالقتل مثلاً
س-00فهل ترون عدالة تطبيق حد القتل في ظل عجز الأنطمة والمحاكم عن ترسيخ العدل والإنصاف وكفل حقوق الناس ؟؟ .
ج- اختلف معك في ما تفضلت به فالأسباب التي تعلق بها الحدود لا يجوز أن تكون نوعا من التحويل للسياسات العقابية ، و الإنحراف الذي تشير إليه لا يجوز أن يعالج بإنحراف آخر يتعدى على الحدود الشرعية الثابتة بالنصوص القطعية بل الواجب مواجهة الإنحراف و التعدي على حقوق الناس و بخاصة على الفقراء بتطوير أدوات النصح و الضغط و المحاورة بحيث تسمع أصوات المحرومين ، و الغالب أن الحديث في قضية الحدود يأتي تحت ضغط الاتجاه الغربي العام في استشناع العقوبات الجسدية ، و المفاضلة بين العقوبات الجسدية و الحبس قضية شائكة حتى في الدراسات الغربية في علمي الجريمة و العقاب ، فكيف يمكن أن نعتبر القضية محسومة بالشكل الذي تفضلت به ؟. و تقبل تقديري و سلامي .