
( بعدما فات الأوان )
في أحدى الأيام دخل الكازينو المطل على النهر مكتئبا , تلقى دعوتها للقاء في نفس المكان الذي شهد ذكرياتهما , فتوجس من الدعوة بسبب صوتها المتهجم . في سابق الأيام لم يكونا يتواعدان على اللقاء .. وأنما يخرجان من مبنى الجامعة فيعبران الجسر المؤدي الى الشاطئ الأخر .. ثم يتجهان الى اليمين ليدخلا الكازينو الصغير .. من كثرة التردد عرفهما العاملون به , وألفوا رؤيتهما معا . حتى في أيام الشتاء الباردة يجلسان ساعه أو ساعتين كل يوم ثم ينهضان فيوصلها ألى محطة الأوتوبيس ويعود على قدميه الى مسكنه القريب ..
3 سنوات مضت منذ ألتقيا في عامهما الجامعي الاول . ولم يفتر الحب رغم المناوشات والتعجل .. ومن حين الى أخر تفقد صبرها فتطالبه بما لا تسمح به ظروفه الان .. وتتهمه بخيانة العهد ! تجيئه كل عدة أسابيع بخبر خاطب جديد ينزل عليه كالصاعقة ويحيل لياليه الى عذاب .. ثم تطالبه بالتحرك ! يعيد ما قاله لها منذ البداية من أنه يتيم ولا مورد له سوى المعاش الضئيل ولا يستطيع أن يتقدم أليها قبل أن يتخرج ويعمل .. فتقوم بوخزه بالكلمات القاسية ! وتتهجم السماء الصافية ! تقاطعه أياما لا يعرف للحياة خلالها معنى , ثم تعود أليه بخبر زوال الغمة وأنصراف الخاطب يائسا ! وتضيف ذلك الى سجل تضحياتها , وتتفتح الأزهار من جديد .. ينعم بحبها أسابيع , ثم تهب العاصفة مرة أخرى بنفس المقدمات والتفاصيل .. يسألها : لماذا نبدد أجمل أيامنا في المعاناة وغيرنا ينعم بالحب والثقة في المستقبل بلا عذاب ؟ فلا يجد جوابا شافيا ..
أنقبض قلبه حين رأها جالسه في نفس موقعهما القديم بالرغم من أعتياده زوابع الشتاء .. شئ ما في وجهها أكد له قلقه الدفين .. كأنما تريد أن تقول له : لن أضعف هذه المرة .. ولن أقدم المزيد من التضحيات .. صرف تشاؤمه حينما تحدثت أليه بلهجة باردة كمن أتخذ قرارا نهائيا ولم يبق الا أن يعلنه , أنهت أليه بصوت غريب على أذنيه قرارها بالأنفصال أقتناعا منها بأنه ليس جادا في الأرتباط بها ولو كان لما أكتفى بالعجز ومطالبتها بالصبر والأنتظار .. أحس بغصة الألم تتحشرج في صدره , ولم يستطع الكلام .. أتسجمع قوته ليدافع عن حبه حتى الرمق الأخير .. فلم يسعفه صوته .. أخيرا نطق بصوت مبحوح : حتى لو كنت مخطأ مع أني لم أخطئ فالوقت لم يضع بعد لتصحيح الخطأ .. نحن شابان صغيران .. والحياة أمامنا طويلة وكل شئ قابل للأصلاح .. فقط أمنحيني فرصة أخيرة للتصرف ..
سكتت كأنما لم تسمع شيئا وواصل هو دفاعه المستميت :
انا في الحادية والعشرين من عمري .. وأنتي في العشرين .. وسوف نتخرج بعد ثلاثة أشهر , وسنعمل وأنتي أول من نبض قلبي بحبها .. وأنا فارسك الأول .. وحبنا مضرب الأمثال .. لقد كنت أفضل أن لا أتقدم أليك الا بعد التخرج والعمل .. لكني مستعد الان لأقناع والدتي رغم صعوبة ذلك بزيارتكم أنقاضا لحبنا .. ولست أطلب منك سوى فرصة أخيرة .. فرصة أخيره فلماذا تضنين بها ؟
فأستمعت أليه صامته ثم قالت بغموض : فات الأوان ..!
تمضي أيام المصدوم في حبه وأملة ثقيلة بطيئة وفي الذاكرة تحفر بعضا , ذكراها الثابتة بمخالب الألم .. في المقدمة وعلى رأسها الليلة التي تخيلها فيها بفستان وردي في حفل خطبتها لفارس جديد .. تجنبا اللقاء حتى حفل الوداع يوم التخرج وتكفل زملاء الدفعة والعمل في نفس المجال بنقل أخبار الطرفين كل منهما للأخر .. بعد أسابيع من الأنفصال عرف بأمر خطبتها .. ثم بعد شهور قليلة سمع أنباء عن فسخ الخطبة .. أستيقضت العصافير النائمة في صدره من جديد . لكن شئ بقرب لم يبشر تحقيق الأمال .. ألتقيا في أحدى الأجتماعات . فرأى وجها جديدا اكتسى بطابع جديد من خبرة الحياة .. تسائل في حسرة : أين البراءة ورومانسية الأيام الخالية ؟ أقتربت منه كأنما لم تعترض حياتهما محنة الأنفصال .. حدثته عن عملها وتجنب الحديث عن الحب الذي كان فاثر الا يقترب من النبع الجاف .. وتواصل اللقاء بينهما في الحديقة الخلفية التي تخص أحدى أجتماعات العمل وتشعب الحديث .. لكن صدى أنغامه تغير كأنهما زميلان لا تجمع بينهما سوى المهنة الواحدة والطموح والرغبة في شغل الفراغ ! قال لنفسه لعلها تكون تنتظر أن أكون البادئ بالأعتراف من جديد أرضاء لكبريائها .. وقال لماذا لا تعطيني أشارة العودة والأمان ! أنتظر صابرا وقد حسم أمره وقرر أن يفاتحها من جديد أن تمسكت بالكبرياء الى النهاية ,, سأقول لها أني الان قادر على تحقيق الأحلام . أن الفرصة التي يمنحها الدهر لنا فنضيعها لا يعيدها مرة أخرى .. لكنها عادت ولن ندعها تفلت من أيدينا مرة أخرى ..
لكن أين هي ليلقى سلاح كبريائه تحت قدميها ؟ ولماذا أحتجبت منذ أيام عن جلست الأصدقاء في الحديقة ؟ أهي حيلة لأستشعر غيابك وألقى سلاحي بين قدميك .. لست بحاجة الى مزيدا من الحيل , فأنا المهزوم قبل النزال ..
ونهض يتصل بها تلفونيا في عملها ويدعوها للقاء في الحديقة الخلفية .. وحاولت الأعتذار بسبب مشاغل عملها لكنه ألح عليها بالحضور , وبعد تردد منها وافقت في النهاية ,, ثم جاءت وبلا مقدمات ركز عينيه في وجهها .. وافرغ بين يديها مكنون صدره .. فسمعته صامته , حائرة ثم أعتصمت بالصمت طويلا وأخيرا نطقت : تأخرت كعادتك .. فات الأوان !
( حين تفقد الأشياء معناها يستوي كل شئ , مع أي شئ , وبنعمة النسيان تتحول الجروح الأليمة تتدريجيا الى جروح أليفة يمكن أحتمال ألامها .. ثم تتحول مع الأيام الى ندوب لا تألم .. لكن أثرها لا يزول ! )
وعن بعد راقبها عن بعد أنبائها ( السعيدة ) فعرف بخطبتها لرئيها في العمل .. ثم بيوم قرانها بدعوى الواقعية يلقى الحب مصرعه , ويصبح كل شئ مبررا ,, فلقد حزن منها عندما قبلت أن يكون حفل زفافها بالحديقة الخلفية التي شهدت مصرع الحب للمرة الثانية , وكان بمقدورها أن تقيمه في أي مكان أخر ..
قاطع مبنى العمل وأمضى ليلته في مقهى بعيدا لكي يتشاغل مع أحزانه , وبعد منتصف الليل عاد سائرا على قدميه الى الحديقة التي يوجد حفل زفافها . كأنما ليطمئن ألى أن كل شئ قد تم وأنتهى .. فأذا به يجد نفسه أمامها بثوب الزفاف الأبيض , ووردة حمراء قانية في شعرها , فأسرع يخفض عينيه , وتحركت السيارة بالعروسين في سلام ..
تفعل الايام الأعاجيب .. وفي أحلام النجاح في العمل قد تدفن بعض الأحزان .. يتغير كل شئ في العالم لا شئ ثابت فيه ألا قانون التغيير , وتضيف خبرة السنين مزيدا من التجاعيد فوق الوجوه , يحقق الأنسان بعض ما يصبو أليه .. ويبقى دائما ما يحلم به , ومن حين الى أخر قد تجود الحياة ببعض قطرات السعادة ,, يرفع سماعة التليفون ذات يوم فيجد صوتها الدافئ يتحدث أليها في ألفة الزمن القديم .. يطول الحديث وينتهي بوعد باللقاء في كازينو النهر الذي شهد بداية القصة وأجمل سنوات الأحلام .. ذهب الى اللقاء مسترجعا يوم اللقاء الأخير في نفس المكان .. وعجب للذكرى الخبيثة التي مازالت تطل عليه كل ما تذكر مشهد اللقاء بالكازينو . أو مر به في طريقه .. يوم اللقاء الذي وأد الحب في مهده غادرا مائدتهما في طريقهما للخروج فمالا كعادتهما الى( التواليت ) , فدخلت هي من باب السيدات , ودخل هو من باب الرجال .. كان التواليت غرفة واحدة مقسمه بحاجز خشبي رقيق يفصل بين المكانين , وفي غمرة أنفعاله الحزين سمع من الجانب الأخر ( نشيش ) أفراغها لمثانتها بوضوح .. فرن في أذنيه رنينا غريبا مازج بين حزنه وتأملاته الساخرة .. فقال لنفسه في حواره الباطني : أفرغت قلبها ومثانتها وأستراحت , أما أنا فأحتباس الحب يقتلني بلا رحمة .. ولأسابيع طويلة ظل صوت نشيش يقفز ألى خاطره كلما أشتد به الألم ..!
أسترجع نفسه من ذكرياته وأقترب من المائدة القديمه فرأها أزدادت نضجا وأنوثه .. لكن أين براءة الزمن القديم أين ؟ تحدثا طويلا .. أستعاد تفاصيل اللقاء الأخير تبادلا العتاب والأتهام بالمسئولية عن وأد الحب قبل موعده . وأعترفت لأول مرة بأنها اخطأت حين نفذ صبرها ولم تلتفت للحقيقة التي أكدتها لها من قبل في هذا المكان .. واعترفت بأنها لمست بالتجربة .. ( أنه مهما كانت متاعبنا فأن مشاكل الحب أقل أيلاما من مشاكل الحياة الخالية منه ) وأعترفت بأنها أنفصلت من زوجها بعد تجربة محزنة .. ثم توقفت قبل أن تقول له : أعترف لك أني أخطات في حقك ,, وحق الحب منذ البداية , وأريد أن أصحح خطئي بعد ( 8 سنوات ) فماذا تقول ؟
أستمع أليها صامتا حزينا .. ثم هم بأن يتكلم ففضحته دمعة لم يستطع مقاومتها .. ثم خرج صوته في النهاية : عقدت قراني منذ يومين بكل أسف .. فات الأوان ...!
جفت الكلمات فلم يجدا ما يضيفانه , ثم تحركا للأنصراف .. وعبرا الشارع القديم . الى مكان سيارتهما وفتحت بابها ودخلت ومدت يدها تصافحة مودعة , فأحتفظ بها وقال لها كأنما يحدث نفسه عندما قال العبارة الغريبة لأوسكار وايلد تقول : ( كل ما يتمناه المرء يستطيع أن يحققه .. ولكن غالبا بعد فوات الأوان ) فالماذا تتحقق الأمنيات الغالية بعد فوات الأوان ؟ فأدارت محرك السيارة صامته وتحرت بها ببطء , وهو يتابعها بنظرة ألى أن أختفت شيئا فشيئا وسط الزحام ..!
وبهذا ينتهي كل شئ بينهما .. وتنتهي قصتهما ..!
****************************

من تضمني أحس بجمر أنفاسك يا أنفاسي
طاير بيك وطاير بيه , يا عمر أحساسك ويا أحساسي ..!