د. فهر محمود شـاكر الابن الاكبر للعلامة محموود...
رثاء محمود محمد شاكر
محمود محمد شاكر ـ رحمه الله ـ كعبة العلم ومنال الورَّاد، عَلمٌ فريد من أعلام عصره، لا يستطيع القلم أن يصف شموخه وعلو شأوه في العلم، فهو طود باذخ، وبحر فياض من بحور العلم، ورث عن أسلافه العرب علومهم، فاهتضمها جملة وتفصيلا، ثم فاقهم وبذّهم في كثير من الأمور. ولا أصدق من كلمة الشافعي لتعبر عما يصطرع في نفسي من معان إذ قال: «إني لأجد بيانها في نفسي، ولكن لا ينطلق به لساني». فالقيد الذي يقيدني ولا أجد للساني فكاكا ولا انطلاقا، يأتي من جانبين، الأول يأتي من كونه والدي، والثاني يأتي من كونه علماً فريداً شامخاً، لا يطاوله الأفذاذ من الرجال، فكيف الحال بالصغار منهم، ولكن لابد مما ليس منه بد. ولكن قبل أي حديث أرى أن أترجم ترجمة موجزة له ـ رحمه الله ـ فهو محمود بن محمد شاكر بن أحمد بن عبدالقادر، من أسرة أبي علياء من أشراف جرجا بصعيد مصر، وينتهي نسبه إلى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، ولد في الإسكندرية الساعة السادسة العربية من ليلة عاشوراء الإثنين عاشر المحرم سنة 1327 للهجرة، الموافق الساعة الثانية عشرة الإفرنجية أول فبراير سنة 1909 الميلادية. إنتقل إلى القاهرة في صيف 1909م بتعيين والده وكيلا للجامع الأزهر (1909 ـ 1913م) وكان قبل ذلك شيخا لعلماء الإسكندرية تلقى أولى مراحل تعليمه في مدرسة الوالدة أم عباس في القاهرة سنة 1916م، وبعد ثورة 1919م انتقل إلى مدرسة القربية بدرب الجماميز. وفي سنة 1921م دخل المدرسة الثانوية، ومع بداية عام 1922م قرأ على الشيخ سيد بن علي المرصفي، صاحب «رغبة الآمل» فحضر دروسه التي كان يلقيها بعد الظهر في جامع السلطان برقوق، ثم قرأ عليه في بيته «الكامل» للمبرد، و«حماسة أبي تمام»، وشيئا من «الأمالي» للقالي، وبعض أشعار الهذليين واستمرت صلته بالشيخ المرصفي إلى أن توفي رحمه الله في سنة 1349 هـ/ 1931م، ثم حصل على شهادة البكالوريا (القسم العلمي) عام 1925م. وفي سنة 1926م التحق بكلية الآداب ـ الجامعة المصرية (قسم اللغة العربية) ـ واستمر بها إلى السنة الثانية، حيث نشب خلاف شديد بينه وبين أستاذه الدكتور طه حسين حول منهج دراسة الشعر الجاهلي، وترتب على ذلك تركه الدراسة بالجامعة. وقد أدى هذا الخلاف بينهما إلى زلزلة عظيمة في نفس والدي ـ رحمه الله ـ كان من جرائها أن أعاد قراءة الشعر الجاهلي كله أولاً، ثم انطلق بعد ذلك إلى قراءة كل بيان، شعراً كان أو نثرا، من تراث العرب على اختلاف الأغراض، ولم يكن غرضه من هذه القراءة إلا اكتشاف أسرار البيان العربي رغبة منه في تبين الفروق بين كلام الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وكلام البشر وأن كلام الله مباين مباينة تامة لكل بيان إنساني، هذه المباينة وتبينها هي ما طولب به العرب، منذ أن نزل الوحي على محمد فمن أجل ذلك أخذ محمود محمد شاكر ـ رحمه الله ـ نفسه بالجد والمثابرة والصبر حتى يجلي هذا الأمر لنفسه، ويستبين الفرق بين كلام الله تعالى وبين كلام البشر، فكانت النتيجة أن حوى كل علوم العربية، إذ وهبها نفسه كلها، فأعطته علومها كلها. وهذا الجد الذي أخذ به محمود محمد شاكر ـ رحمه الله ـ نفسه لم يكن منصرفاً فقط إلى القراءة والكتابة فحسب، بل صار ديدنه في الحياة، واستتبع هذا الجد ضرباً آخر رفيقاً له ملازماً ألا وهو الإتقان، فهو يظهر في كل عمل يباشره، وكل فعل يفعله. ولم يكن إتقانه منصرفاً إلى عمله فقط بل ينسحب إتقانه إلى كل كبيرة وصغيرة في حياته وفي عمله. فمثلا عندما كان يأتي إلى المنزل عامل ليصلح شيئا فقد كان يقف على رأسه متابعا عمله، بجد ويرى أكان متقنا أم لا، فان لم يكن فإنه ينبهه إلى ما أغفله حتى يتم عمله كاملا. وهكذا هو حاله في كل شيء فهو يرى الإتقان من الدين. وليس هناك مثال أصدق على صحة ما أقول مما كتبه في مقدمة رائعته «القوس العذراء» عن الإنسان فقال: «ابتلي من يومئذ فتمرس، وأسلم إلى مشيئته فتحير، جار وعدل، فعرف وجرب، أخطأ وأصاب، ففكر وتدبر نزع إلى المنهج الأول، فأخفق وأدرك. تاق إلى الهدف القديم فأعطي وحرم، احتفر ذخائر الفطرة فأكدت عليه تارة ونبعت، التمس شوارد الإتقان، فندت عليه مرة واستقادت. وإذا كل صنع يتقاضاه حق إحسانه، وكل عمل يحن به إلى قراره إتقانه». فهذا الوصف الرائع المبين أيّما إبانة كأنه يصف به حالته، عندما رفض آراء أستاذه طه حسين شاكا شكا بينا في كلامه، فالتمس اليقين فيما كتبه أعلام النهج الأول، وظل يدور ويحوم حتى وصل إلى اليقين، وهو في بحثه المضني هذا التزم طريقين لا يحيد عنهما هما: الجد والإتقان فصارا جميعا نمط حياته كلها. ر حم الله محمود محمد شاكر وأدخله فسيح جناته. جزاء ماقدم للعربية والإسلام، {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولاتحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} غفرانك اللهم وحدك لا شريك لك. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي)عدد(16)بتاريخ (1418هـ)