من العجب أن تخرج ثمرة مشاكسة من شجرة طيبة أصلها في قرية المريدسية وفرعها في مدينة بريدة , فما كان مسقط الرأس يعني لي كثيرًا قبل أن أشب عن الطوق , وإن كان ولا بد ؛ فإنني لآسف أن يكون مسقط رأسي في بيت مجهول , وقرية أجهل من البيوتات التي فيها مجتمعة , فما كنت لأحزن على شيء كما حزني على تلك الواقعة التي كنت أحتقرها !
إن كنت أخي القارئ سائرًا في طريق الملك فهد , فستأتيك بعد البنيان لوحة كُتب عليها المريدسية جنوبًا , فاذهب إلى الجنوب , فإذا انحنى الطريق يسارًا فخالفه إلى اليمين منعطفًا , فسيأتيك مسجد تكاد تظن أنه بني قبل الكعبة , فخذ بيسار الطريق , ثم عليك بيمينه , ثم بيساره , فإذا تجاوزت مسجدًا يبين لك أنه بني قبل المسجد السابق فتمهل , فستجد طريقًا فرعية على يمينك , ثم تنهد منعطفًا , إذ قد وصلت مكان المسقط , حيث تنتهي بك الطريق ببيت صغير , تحفه الأشجار من كل جانب , فجدار البيت الذي يقف شامخًا أمامك كنت خلفه حين بدأت الدقائق الأولى من حياتي .
حين تضيق الدنيا عليَّ بما رحبت – وما أكثر ما تضيق – وتغالي في تضييقها وإحكام الخناق ؛ أهرع إلى النفود الذي يشرف على المسقط , إنه نفود يصطدم بالمتجاوز لذياك المسجد العتيق الأول الذي سبق بناء الكعبة قدمًا , وما أدري كيف سبقها حين لم يكن هناك إسلام , ولكن القدم وما يصنع بالطبيعة , على أن مجيئي إليه يكمن في أن أسلك طريقًا من خلف النفود !
إنني أدعوه بالمطل , فإن وقفت أستشرف المسقط من علٍ أشعر بالأنس تارة , وأشعر بالحسرة تارة أخرى , نقيضان يزينهما الضد , والضد يظهر حسنه الضد , وإني لكذلك حتى تمر الساعات بلا دراية مني , فتأخذني الذكريات في مأخذها , وأعيد سجل الحياة يوم كنت وليدًا وكيف اليوم أصبحت , وإن أنسَ لا أنسَ علامة المطل لمن أراد الوقوف عليه كما الأطلال , فإنه سيجد خزان ماء حديثًا يسقي بعض البيوتات , إنه بنيان عظمي بلا تحسين , ويراه الرائي وهو سائر في طريق الملك فهد إن أخذ بالنظر من على يساره !
مسقطي ومكان مولدي أحن إليه , ولا أستطيع أن أعرض عنه أكثر من شهرين اثنين , فإن غفلت عنه أحسست بضيق يرقد على صدري , ويحكم الوثاق اعتصارًا , فإذا الضلوع آخذة بالتكسر كما العيدان متفرقة , وإني لأزال كذلك حتى أقف على المطل كرة أخرى بعد كرات .
إذا كان ذلك كذلك ؛ فإن الغرب أعز عليّ من أي جهة سكنًا , فإنني عائد إلى المسقط , فمن الغرب خرجت وبقيت على الدنيا , وسأخرج منها عائدًا إلى المسقط كما بدأت أول مرة , حيث يطيب للمرء أن يوصي بضريح يكون في مسقط رأسه !