[align=center]
كثير من القراء يعرف شيئًا – إن لم تكن أشياء – عن حياة الخليفة الرشيد , فهو المقول فيه : كان يغزو سنة ويحج سنة , وقد ثبت عند غير واحد من المؤرخين أن الناس مبالغون في تلك المقولة , فقد كان على خلاف ما ذكروا , فلم يكن كما بالغوا في تقواه , ولم يكن كما اجتهدوا في تبرئـته من جور حكام الدول الماضية .
إن سنة الله في الخلق أن يكون الحاكم يميل إلى الظلم , وإن زهد في الحياة وعدل في رعيته ؛ جاء من يستعجل أجله كما عمر بن عبد العزيز حين قُتل مسمومًا , فلم يكن خلفاء الإسلام بعد تحوله إلى الملك العضوض كما كان عليه الخلفاء الأولون .
لذلك نجد عبر التاريخ أن كثيرًا من الحكام يميلون إلى العبادة وإلى سماع المواعظ , لكن عقلهم الباطن لا يتهاون في الفتك بالناس وسلب حقوقهم , وإرغامهم على سياستهم التي يريدونها .
من المشهور المعروف أن الرشيد كثير السماع للموعظة , كثير محبة للصالحين , يُروى أن ابن السماك الواعظ الشهير قد وعظه فانخرط في البكاء حتى خشي الحاضرون عليه , ونراه يذهب إلى الفضيل ابن عياض الواعظ الآخر في بيته فيعظه لثلاث فيغمى على الرشيد ثلاثًا .
ولو تتبعنا أعمال الخير عنده لوجدناها كثيرة , لكننا نُصدم بتلك الازدواجية حين نعلم أنه يبكي عند الواعظين في الصباح , بينما يهيم رقصًا ونشوة عند المغنين والجواري في المساء , وحسبنا أن نعلم أن كتاب الأغاني للأصفهاني قد ألفه له , وقد بلغ عدد الجواري ألفي جارية , وقد طرب ذات يوم من أحد المغنين فصيره واليًا على مصر .
لقد كان جباة الأموال في عصره يضربون الرعية بالسياط , ويعذبونهم في حر الشمس , وفي صب الزيت المغلي على رؤسهم , إنه خليفة يعبد الله في آن , بينما ينهب البلاد والعباد في الآن ذاته .
لقد كان الرشيد أنموذجًا بارزًا لكل حاكم يعيش بالازدواجية , فلن تنفع الشعب عبادته , ولن ينفع الشعب دموعه , وإنما تدليس على الناس من حيث لا يدرون .[/align]