ثم قال بلسان الساخر المتهكِّم ، من كلِّ خنفشاريٍّ  تَزَبَّبَ  وهو حِصْرِم :
أليسَ من عجائبِ الزَّمان ؛ أن بحرَ العلومِ لا يحفظُ القرآن , وأن صيرفيَّ الأحاديثِ النَّبويَّة ؛ لا يحفظُ حتى الأربعينَ النَّوويَّة . 
ولكنَّه يظلُّ يقطعُ الليالي الطِّوال , في البحثِ عن زلَّةٍ مدفونةٍ في الرِّمال , حتى تورَّمَتْ عيناهُ من طُولِ هذا العَنَاء ، وهو مازالَ مُمْسِكاً بخيوطِ الأمَلِ السَّوداء
فإذا كانَ هذا حالُ ربيعِهم وهو أفضلُ الفُصُول ، فما الظنُّ بسواهُ وقد آذَنَتْ شمسُهُ بالأفُوْل  ؟!
قال الراوي :
فسألناه أن يُبَيِّن لنا الآنَ حقيقةَ نِزَاعاتِهم  ، بعدَ انفضاضِ الناسِ عنهم وكَسَادِ بضاعاتِهم ؟ 
فتبسَّم ابتسامةَ الشَّامتِ بهؤلاء  ، وقال : إن إضاعةَ الزَّمانِ فيهم لعَيْنُ البَلاء !! 
فلقد وقَعُوا في حُفرةِ النَّارِ التي أشعَلُوها ، وخُنِقُوا بالحِبَالِ التي طالما فَتَلُوها , فما بَكَت عليهم السَّماءُ والأرض ، فهم أسماكٌ ميِّتةٌ في مُستنقعِ البُغْض .
ما انتفاعُهم بعيونهم وقد عَمِيَت البَصَائر ؟! فبَغَوا ولكن على الباغي تدورُ الدوائر , ولئن عَلاَ نجمُهم في السنين الماضية , فقد كانوا كمَن يصعدُ إلى الهاوية ، فالحمدُ لله الذي هَتَكَ أستارَهم بفضلِه ، ولا يحيقُ المكرُ السَّئُ إلا بأهلِه .
فانظروا كيفَ ضلَّل بعضُهم بَعْضَا ، وامتلأتْ نفوسُهم غيظاً وفاضت بُغْضَا , فالسِّتَّةُ اختلفوا فَصَاروا عشرَ جمَاعات ، ونَسُوا أن صراطَ اللهِ واحدٌ لا بالعَشَرات !!!
فكم لَبِسُوا "عباءةَ السلفيةِ" ويا لها من عَبَاءَة , فلطَّخُوها بالجهلِ والكَيدِ والدَّنَاءَة . فكانت وكانوا ـ دونما تعيير ـ : " صَحْنَاً صينيناً فوقَه لحمُ خنزير " !!!
قال الراوي :
 فحمدنا اللهَ أنْ عافانا ممَّا ابتلاهم ، وسألناهُ أن يَشْفيَ بفضلِه جميعَ مرضاهم .
وطَفِقْنا نَذْكُرُ ما يُروى عنهم مِن نوادِر ، تُضْحِكُ الثَّكالى وأربابَ الحظِّ العاثر ،  مما فاتَ ابنَ الجوزيِّ في غابرِ السَّنين ، أن يذكَرَهُ في كتابِه " أخبارُ الحمقي والمغفَّلين " .
ثم التفتنا إليهِ وسألناهُ المَزيد , فهو إنسانُ عَيْنِ الظُّرْفِ وبيتُ القَصِيد .
فقال : أمَّا وقد أحفيتُم في السُّؤال ، فليسَ لي إلا رُكُوبُ مطيَّةِ الامتثال .  
اسمعوا مني هذه القِصَصَ الغَرِيبة ، حدَّثني بها مَن لا يُخَالجني  في صدقِهم رِيْبَهْ  ، جمعتني بهم بعضُ المجالسِ الشَّريفة ، فلما ذُكِرَ الجاميَّةُ كنَّا كمَن قَعَدَ على جِيفة .
 فحدَّثني أَحَدُ صالحي الإخوان ، وهو ممَّن ترتاح ُلرؤيتِهِ العيَنان :
رَجَعَ جامي ٌّ إلى العُوْدِ بعد هَجْرِهِ سنيَنَ معدودَة ، فلمَّا ناصحتُهُ  قال لي  ـ وهو يضرب عودَه ـ : لأنْ أكونَ عاصياً سَلَفيَّا ؛ خيرٌ لي مِن أنْ أكونَ ملتزماً خَلَفيَّا ، فتبَّاً لكَ من قُطبيٍّ تائهٍ في لُجَجِ  الدَّيجور ، ومَنْ لم يجعلِ اللهُ له نَوْراً فما له من نُوْر !!
وحدثني ثانٍ ـ وهو من ذَوِي الصَّلاح ، ووجْهُهُ وضئٌ مثلُ غُرَّة الصَّباح ـ :
رأيتُ أَحَدَ منظِّري الجاميَّةِ بعدَ انحرافِه ، وقد كانَ مِن قبلُ حقيراً وهو الآنَ تافِه ، قد حَلَقَ لحيتَه وأسبلَ ثوبَه ، فدَعَاني دَاعِ الأخوَّةِ أنْ توجَّهتُ صَوبَه ،  فكلَّمتُهُ بكلامٍ ليِّنٍ تَرِقُّ له صُمُّ الجِبَال ، فازورَّ عني مقطِّباً جبينَه وقال : قد نهَىَ السَّلَفُ عن الكَلامِ معَ أهلِ الأهواء , قُمْ عني فالجلوسُ مَعَكَ من أعظمِ الأدواء !!!
وحدثني ثالثٌ ـ وهو يُقْسِمُ أنه لم يزدْ حَرْفا ،  وأماراتُ الصِّدقِ على وجهِهِ لا تَخْفى ـ : 
دخَل علينا الدُّكتورُ ( فلانٌ ) القاعةَ دونَ سَلاَم ، فلمَّا استقبلنا بوجهِهِ سدَّدَ في صُدُورِنا سِهامَ الملام :
مالَكُمْ تَخْبِطُونَ في دُوُربِ التِّيهِ خبطَ عَشْواء ، وتُفْنُونَ الأعمارَ في قراءة كتبِ أهلِ الأهواء ؟!! ثم قال وهو يهزُّ عِطْفَيْهِ بزهو واختيال ،  ويتباهى بعلمِهِ تباهي ربَّاتِ الحِجَال :
أتحدَّى أن تكونوا قد سمعتُم قبلَ الآن ، بالإمامِ سُليمانَ بنِ سَمْحَان ؟؟ فصحَّحَ لهُ اسمَ الشَّيخِ كلُّ مَن في القاعة ، ليتعرَّى جهلُهُ وينَكَشِفَ مُزْجَى البِضَاعة . 
قال الرَّاوي :
فضحِكنَا حتى استلقى بعضُنا على ظَهْرِه ، وهو يتلُو " واللهُ غالبٌ على أمره " ، وما زلنا نُجَدِّف بين أمواجِ المَرَح ، بما يَرويهِ عن هؤلاءِ الحَمْقَى منَ المُلَح ، حتى أطلَّ علينا الفَجْرُ بثغرِهِ الوضَّاء ، ورحَلَ القَمَرُ  وهو يجرُّ عَرَبةَ الظَّلْماء .  
ولمَّا همَّ بالانصرافِ شيَّعْناهُ بإِجلال ، بعدما أحًطْنا بهِ إحاطةَ الهَالةِ بالهِلال .
                    وكتبه أبو الفضل الهلالي في 4/6/1423 من الهجرة النبوية الشريفة