لست باحثًا عن منصب , ولست أرنو إلى ما يأخذ وقتي ووقت أبنائي , ولست أريد أن أكون لوكة في أفواه سكان هذه المدينة , فقد خبرت أهلها عن بكرة أبيهم , فإنهم يحرثون ما تحت الأقدام كيما يجدوا الزلة , وويل لمن تزل قدمه في عمل اجتهد فيه وهم ينظرون , فإن الدعاء عليه بكرة وعشيًّا , فلو كانت الدعوات تُرى لغطت سماء بريدة حتى تصطك وتسد الأفق !
ما أريد لهم من رزق وما أريد أن يطعمون , وحسبي أنني مجهول بينهم , فخلي البال لا يعرف نعمة الراحة حتى يزج نفسه أو تزجه الأقدار في منصب قلَّ أو كثر , فيراه الرائي القريب منه يتشحط في ما يقوله الناس فيه , فالناس أجناس متفننة في صياغة المثالب , والشؤم كل الشؤم على من يكون حديث الصغير قبل الكبير , فتتسلط الألسنة عليه , وتفغر الأفواه قدحًا فيه , وتلصق المعائب فيه نكاية به .
أهل بريدة من أكثر شعوب الأرض تقصيًا لحكايات الأحداث اليومية , وهم مولعون بحب الاستشراف عن أي طارئ يسمعون به , ولا يبخلون على أنفسهم في أن يتجمهروا حول حادث مروري يسير , فكأنهم بتزاحمهم واكتظاظهم سيصلحون ما لحق بصاحبي الحادث وبسيارتيهما , فذلك عجب ما بعده عجب !
على أن الإشاعات لتسري بين بيوت بريدة كما تسري النار في الهشيم في يوم عاصف , فترى الجميع ملمين بالإشاعات الجديدة , وكل راوٍ يزيد على ما سمع ما وسعته الزيادة , فهم يحفلون بالمصائب أكثر من حفولهم بالبشائر .
والحق أن فيهم شغفًا في تخطي الأنظمة , ولا يعبئون بها , ويرون أنها قد وضعت لغيرهم , وأنهم فوق ما جاءت به الأنظمة مجتمعة , فهم مجتمع غير مُدجّن , وغير مسيّس , فأنفسهم تحدوهم إلى المخالفة , آخذين بمقولة : من له حيلة فليحتل !
لو كنت ذا منصب فإنني سأعاني منهم , وسأكون من المسخوط عليهم , ولن يعجبهم أنني أتّبع ما بين يدي من أنظمة , بل سأكون عدوًا لدودًا في نظرهم , فعيونهم لا تغفل عني ليل نهار , ويتربصون بي الدوائر كيما أخطئ , ولو أنني تبعتهم فيما يريدون ثم قضت الأيام بصروفها ضد ما يشتهون لقلبوا لي ظهر المجن , وعابوني وعيروني بكفايتي , وألصقوا بي ما ليس يُلصق بقيادي حاول جاهدًا أن ينفع الناس !
مالي ومال المناصب , فحبذا العيش مغمور الذكر في الحياة وفي الممات , فغاية أهل بريدة لا تدرك أكثر من غيرهم بلا منازع أو مدافع أو مشاكس ! !