بداية لقد كبرت أربعاً على وزارة الإعلام ، طالما هي بيد هذا الوزير المستبد المتخلف
حقيقة أستغرب السرعة في سحب عدد مجلة الاسلام اليوم هذا الشهر ، والسبب لقاء مع الدكتور محمد الحضيف
الجميل في الموضوع أننا أصبحنا في زمن تجاوزت فيه التقنية حاجز المنع الذي يتخذه مثل هذا الوزير المستبد الذي وأد حرية فئة دون أخرى !!
أترككم مع نص اللقاء
س1 : في بواكير حياتك ، هل كنت تخطط لأن تصبح روائياً ، أو إعلامياً ، أم أن الصدفة هي التي قادت خطاك إلى هذه الاتجاهات ؟
نشأت في أسرة عادية ، ليس من بين أفرادها ، من كان له اهتمام بالكتاب والقلم . في مرحلة الدراسة المتوسطة ، صار عندي ميل للقراءة ، من غير تحريض من أحد . كنت أوفر جزءاً من مصروفي المـدرسي ، وأذهب على قـدمي ، إلى وسط الرياض القـديم ، الذي يسمى ( البطحاء ) ، حيث تباع على الأرصفة كتب ومجلات قديمة من كل نوع .. فأشتري وأقرأ ، ثم أعود وأبيعها على نفس الأشخاص بسعر أقل ، وأشتري غيرها .
لم أخطط أن أكون روائياً .. ولا حتى كاتباً ، لكني مع كثرة القراءة ، وجدت الكلمة تنقاد لي حينما أكتب .. خصوصاً في مادة الإنشاء ، التي تعودت أن آخذ فيها العلامة الكاملة . الذي خططت له فعلاً ، أو أصبح حلماً يراود خيالي باستمرار ، هو أن أصنع لي مكانة اجتماعية في مجتمعي .. من خلال التعليم . حين نجحت من الصف الثالث متوسط ، كان طموحي قد كبر واستوى على سوقه : قرّرت أن أتفوق .. لأكمل دراستي العليا ، وأكون دكتوراً . أذكر عصر ذلك اليوم ، من أيام عطلة الدراسة الصيفية .. حين جلست على كرسي خشبي أرسم مستقبلي ، في دكان لأحد الأقارب .. عملت لديه في إجازة الصيف ، مقابل مكافأة كانت صغيرة ، لكنها بالنسبة لشاب في السادسة عشرة من عمره ، تعني شيئاً كبيراً .
سرحت بخيالي نحو مستقبل ، تبدو معالمه ، وتغيب تفاصيله .. والخطوات إليه واضحة . سرقتني الأحلام من واقعي البسيط ، إلى مستقبل واعد مليء بالفرص . شعرت بأن النقلة لن تكون سهله ، في مجتمع ليست ( الكفاءة ) جسراً للوصول إلى الأهداف الكبيرة ، وتحقيق الذات . كنت من أسرة ذات نسب ، لكنها لم تكن أسرة ( أرستقراطية ) .. عريقة في الثراء أو في السلطة . اشتهرت عائلتي بخصلتين : الشجاعة والأنَفَة . كان واضحاً أن الشجاعة لا تنفع كثيراً في دولة ( القانون ) والشرطة ، وأن الأنَفَة تضر بالفرد ، في ظل ثقافة ، تعلي من شأن المجاملة ، إلى حد تكريسها ، نمطاً من أنماط التزلف والنفاق الاجتماعي .
غبت عمّا حولي ، متعلقاً بنظرة مستقيمة تتصفح المستقبل . لم يُعِدْني إلى الواقع ، إلاّ منظرها ، تمرق من أمامي .. على الجانب المقابل من الشارع ، تسوي من حجابها ، وهي خارجة من باب دارهم .. لباب آخر بجوارهم . تعمّدت أن تبدي لي لا مبالاتها ، وعدم اهتمامها بنظرتي المركزة المشدودة إلى الأفق ، التي صادف أن وقعت عليها ، وهي تعبر إلى بيت جيرانهم . اهتز قلبي الذي عصفت به رومانسيات الروايات ، التي كنت قد أدمنتها ، فتخيلتني إحدى شخصيات إحسان عبد القدوس ، العائدة من موعد خائب . قلت في نفسي بكثير من الثقة ، وأنا أتابعها بنظراتي ، حتى أبتلعها الباب : كبرياء زائفة ..! سأعود بالدكتوراه يوماً ، وستتمنين لو توقفت والتفت ، قبل أن تضعي قدمك داخل الباب . منذ ذلك التاريخ قررت أن أكون دكتوراً .. وكان ( فعلاً ) حرّضت عليه امرأة . في البدء .. كانت المرأة ..!
قلّبت الرأي كثيراً ، في التخصص الذي يجب أن أدرسه في الجامعة ، وأكمل فيه دراستي العليا . حينما وصلت الصف الثالث ثانوي ، أصبحت الرؤية واضحة .. ميولي نحو الدراسات الإنسانية والأدبية ، وليس العلمية . ثم اتخذت قراري النهائي : سأتخصص في الإعلام ، خاصة وأن مهاراتي الاتصالية في الكتابة والحديث كانت متميزة .. قياساً إلى زملائي ، إضـافة إلى أن الثقافة التي راكمتها من خلال قراءاتي المبكرة ، ميزتني عن كثير من أقراني ، وأوصلتني إلى الاقتناع ، أن الإعلام هو أنسب مجال مهني لي .
س2 : التفوق الدراسي الذي ميز دراستك ، لماذا لم يذهب بك إلى كلية الشريعة ، كما هو متعارف عليه في السعودية ؟ هل هناك قناعات خاصة أبعدتك عن دراسة الشريعة ؟
في الفترة التي ينتمي إليها جيلي ، لم يكن الشباب المتفوق يتوجه إلى كليات الشريعة ، بل كانوا يقصدون الكليات العلمية ، مثل الطب والهندسة . بالنسبة لي ، لم أجد ميلاً إلى كلية الشريعة . اطلاعي المبكر على أدبيات التيار الإسلامي ، إضافة إلى الثقافة الأدبـية والفكرية ، التي فتحت ذهني على شمولية الإسلام ، دفعتني إلى التخصص في الإعلام . حين التزمت إسلامياً ، لم أتوجه إلى الكتب التراثية .. كما هي عادة الشباب في مثل سني ، بل إلى النتاج الفكري للحركة الإسلامية . كان أول ما قرأت كتابين لأبي الحسن الندوي رحـمه الله : " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " ، و " الصراع بين الفكرة الإسـلامية والفكرة الغربية " . الندوي قادني لمفكر آخر كبير ، هو أبو الأعلى المودودي ، ثم وجدت نفسي بعده ، أدخل فضاء سيد قطب المذهل .
سـبب آخر ربما .. هو أن اهتماماتي الفكرية دفعتني إلى متابعة الصحافة ، لزيادة رصيدي المعرفي ، ووعيي بمجريات الأحداث من حولي . كل هذا عزز لدي الإيمان ، بالدور المهم للإعلام في حياة الناس ، وكان محفزاً للتخصص في الإعلام , وليس الشريعة .
س3 : تجربة الابتعاث إلى الخارج ، هل كانت ايجابية بالنسبة لك ؟ وما مدى تأثير تلك التجربة في إسهاماتك ، سواء في العمل العام ، أو الإبداعي ؟
كان لتجربة الابتعاث أثر عميق في نفسي . خرجت من مجتمع محافظ جداً ، ومنغلق إلى حد كبير ، بفعل عوامل سياسية وثقافية ، إلى مجتمعات مفتوحة ومتحررة جداً جداً . أعتبر نفسي محظوظاً ، أن يسّر الله لي التفوق في دراستي الجامعية ، ومن ثم ابتعاثي للولايات المتحدة ، للحصول على الماجستير والدكتوراة . بالرغم من أنني أنتمي لأسرة تعود جذورها للمنطقة الوسطى في المملكة العربية السعودية ، إلا أن ولادتي ونشأتي المبكرة في مدينة ( طريف ) ، في أقصى شمال المملكة ، كان لها تأثير على التكوين المبكر لشخصيتي ، وبالتالي تفاعلي مع الآخرين . أمر آخر أثر فيّ ، وجعل تجربة الابتعاث أكثر ثراء ، هو شخصية الوالد رحمه الله . لقد كان أبي ( كوسموبوليتياً ) من طراز نادر ، يتـعـايش مع الجميع ، بروح متسامحة ، قل أن توجد في شخص ولد ونشأ في بيئة محافظة ، تتـوجس من ( الآخر ) ، وتتعامل معه من خلال نظرة فوقية . تجربة العيش في شمال المملكة .. بوصفها منطقة متعددة الثقافات ، والتنقل بين الكويت والعراق والأردن وفلسطين ولبنان وسوريا ، وفرت للوالد هامشاً ثقافياً واسعاً لقبول الآخر واحترامه ، مع الاعتزاز بالذات ، والمكونات الثقافية للشخصية النجدية .
حينما وصلت أمريكا ، لم أواجه صعوبة في الاندماج في المجتمع الطلابي العربي والمسلم ، المختلف المشارب ، والمتباين الثقافات . بل إن تفاعلي كان سريعاً ، مع الثقافة الأمريكية ، وثقافات شعوب ، نشترك معهم ، في هموم النضال والتحرر والتخلف والتبعية ، مثل دول أمريكا اللاتينية . أتذكر بكثير من المتعة والحنين صداقات أقمتها مع زملاء من الأرجنتين وتشيلي وهندوراس . لقد استفدت من بعضهم روح الكفاح والنضال ، وتعلمت معنى احترام الإنسان للمثل العليا لقضيته ، وفصلها عن ممارسات الأفراد ، الذين ينحرفون بها عن أهدافها ، لأسباب سياسية أو أسباب شخصية .
س4 : هل ترى أنه من المهم ، بالنسبة للروائي ، أو المبدع بشكل عام ، أن يغترب ليحس بالمعاناة ، وينتج أدباً قيماً ؟
الاغتراب حالة ذهنية . قد يشعر الإنسان بالغربة وهو في وطنه ، بين أهله وأفراد مجتمعه . إذا نظرنا إلى ( الاغتراب ) ، على أنه ( توحش ) الإنسان ، مما يجري حوله ، مما لا يتسق مع موازينه ، ولا يجري على نسق العالم الذي يصنعه في مخيلته .. ليعيش فيه ، فإن هذا من نوع الاغتراب الذي يصنع المعاناة .
الظلم بكافة أشكاله ، شيء موحش ، يقود إلى اغتراب ، وينتج معاناة . كم يخطف ضمائرنا ، ظلم يأخذ شكل امرأة غاب معيلها ، فهي تستجدي حقها ، وتذود عن نفسها ، أو شرفها المهدد .. بدموعها ، وتوسلات صوتها الكسير . أليس مغترباً .. مظلوماً ، ذلك السجين الذي تمر الأعوام ، تطفئ النور في عينيه ، وتخطف البريق من عيون أطفاله .. وهم ينتظرونه . بالتأكيد .. ليس ثمة أدبٌ حقيقي ، لا يخرج من رحم معاناة .. تصنعها غربة ، أدى إليها ظلم وتوحش .. فالفقر ظلم ، وغياب العدالة ظلم .
س5 : من أين اكتسبت هذه اللغة الفخمة التي تكتب بها ؟
اللـغة التي يكتب بها الكـاتب ، هـي حـصيلة المفـردات التي يراكمها من قـراءاته . ( الكتابة ) الجيدة ، هي بالضرورة نتيجة لـ ( قراءة ) جيدة . حين يكتب الكاتب ، يستدعي مخزونه اللغوي .. وينتقي الكلمات الأحسن تعبيراً عمّا يريد . صياغة الجملة هي ما يتفرد به كاتب عن آخر . بالنسبة لي ، قرأت لــ ( كُتّاب ) جيّدين .. من وجهة نظري ، خصوصاً الشعراء منهم .. الذين أضافوا إلى لغتي شيئاً كثيراً . الشاعر المبدع يملك قدرة غير عادية على صناعة صورة مدهشة بالكلمات ، تمسك بخيال القارئ . الكاتب الذي لا يحسن قول الشعر مثلي ، يسعى إلى استيعاب اللغة الشاعرية الأجمل لدى الآخرين ، لجعل كلماته المنثورة ، أقرب إلى الشعر المبدع ، بفخامته وصوره وأخيلته .
س6 : الملاحظ أن الإسلاميين يقل عندهم الجانب الإبداعي ، فلا تجد فيهم روائياً متمكناً ، أو شاعراً فريداً ، وإن وجد ، يكون حالة فردية ، بخلاف التيارات الفكرية الأخرى .. هل لديك تفسيراً لهذا ؟
الإبداع نتاج التفاعل مع الثقافات الأخرى . التفاعل لا يعني الذوبان في ( الآخر ) ، بل الاستفادة من ( الجيد ) الذي لديه .. باستيعابه ، ثم إعادة إنتاجه ضمن الخصوصية الثقافية . في بداية النهضة العلمية للحضارة الإسلامية ، في العصر العباسي ، ترجم المسلمون جزءاً كبيراً من التراث الإغريقي والروماني والهندي والفارسي . استوعبوا حسنه ، ولفظوا رديئة ، في أجمل عملية تفاعل في تاريخ البشرية ، أنتجت أكثر حضاراتها إنسانية .
بعض الإسلاميين المعاصرين ، خصوصاً المهتمين بالأدب ، أقاموا بينهم وبين المنتج الثقافي للآخر ، المختلف عقدياً .. سداً صلداً . يبدو أن هناك توجساً ، أدى إلى خلط بين محاكاة الآخر ، والاستفادة منه . بعض هذا مردّه ، إمّا إلى الخوف من ذلك الآخر ، أو الشعور بالفوقية تجاهه ، وهو ما يعني أن لا شيء لديه يستحق الاطلاع (!!) : الإسلام شامل ، ومنهج حياة مكتمل . شمولية الإسلام ليست محل نقاش ، لكن الانغلاق على الذات ، يؤدي إلى الضعف ، ويعيد إنتاج المكرور . الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " أيّما شيء يدخل في نطاق " مكارم الأخلاق " ، أيّا كان مصدره ، للكاتب المسلم حق فيه ، ومطالب أن يستوعبه .. ليبدع .
س7 : هل تعتقد أن التركيز على العلوم الشرعية ، أبعد الناشئة من شباب الإسلاميين عن تذوق الأدب ؟
لا .. لا أعتقد أن التركيز على العلوم الشرعية ، يبعد الإنسان عن الأدب ، ولا أمـيل إلى وضع عـلاقة ( ضدية ) بين الشريعة والأدب . المسألة في تقديري أولويات يضعها الفرد لنفسه ، إضافة إلى أن الأدب ، جزء منه موهبة . صحيح أن هناك تقليلاً من قيمة الأدب لدى بعض الشرعيين ، لكن واقع الحال ، الذي نراه في اتجاه قطاعات كثيرة من المجتمع ، نحو الرواية والشعر ، يؤكد الدور الخطير للأدب ، في إحداث تحوّلات اجتماعية جذرية . إذا ابتعد الشـرعيون عن الأدب وأدواته ، وقللوا من شأنه في عيون تلاميذهم ، فإن تلك التحولات ، ستسير ، لكن في منحى غير الذي يأملون . التحولات الاجتماعية واقعة ، وتحدث كل يوم .. الذي يحدد اتجاهها ، هو الذي يسهم فيها أكثر .
س8 : تقاعدك المبكر عن العمل الجامعي .. هل كان ايجابياً بالنسبة لتجربتك الأدبية أم خصماً لها ؟ وما ملابسات هذا القرار ؟ وكيف كان أثره عليك ؟
ابتعادي عن العمل الجامعي ، لم يكن برغبتي . خضت تجربة عمل سياسي اعتقلت بسببها ، وسجنت عدداً من السنوات . بعد خروجي من السجن ، صدر قرار من جهات معنيّة ، بفصلي من عملي الأكاديمي . ربما كان للحدث أثر في تجربتي الأدبية ، من جهة أني كتبت بعض نصوصي القصصية داخل السجن .. فشجعني ذلك على الاستمرار ، وتكرار التجربة . فيما يخص تجربة الاعتقال والسجن ، التي أبعدتني عن الجامعة ، فقد أحدثت أثر عميقاً في وجداني ، لا يمكن حصر أثارها في عدد من الجمل . ثمة تداعيات كثيرة وكبيرة ، أفرزتها التجربة .. علي شخصياً ، وعلى أسرتي . منها ما هو نفسي ، وبعضها اجتماعي واقتصادي .. وآخر ثقافي . لكني أستطيع أن أقول لك بكل تأكيد ، أنني خرجت من ذلك الابتلاء .. أقوى بإيماني ومكتسباتي ، وثقتي بنفسي .
س9 : كيف تنظر لمجمل الحراك الذي تعيش فيه السعودية في الوقت الراهن ، خاصة في مجالات الثقافة والسياسة والمجتمع نفسه ؟
في المملكة العربية السعودية حراك على مختلف الصعد . في السياسة ، هناك اتجاه نحو مزيد من الشفافية ، وتفعيل دور المشاركة الشعبية . ثقافياً .. تبدو الأمور أكثر حدة ، وإيقاعها أسرع . الحراك الثقافي في المملكة ، من وجهة نظري ، غير صحي . الذي يحدث الآن صراع ، أكثر منه تفاعل . أحداث سبتمبر أفرزت تياراً يسمّي نفسه ( ليبرالي ) ، اعتمد مبدأ الخصومة مع واقع المجتمع السعودي المتدّين والمحافظ جداً . نخبوية الليبرالي ، جعلته غير قادر على إحداث تحوّل اجتماعي ، بطبيعة جماهيرية .. فلجأ إلى الإعلام ، الذي يسيطر على وسائله ، مما جعله ( ظاهرة صوتية ) ، بلا رؤية ، ولابرنامج .. وتفتقد لعمق شعبي .
يأخذ الحراك الثقافي الآن في المملكة ، بين الليبراليين والإسلاميين ، شكل ( المناوشات ) وليس ( الحوار ) ، ويعتمد ( الإقصاء ) وليس ( التعايش ) .. هدفاً لحسم الصراع . الليبراليون يلوذون بالسلطة ، ويستعدونها على مظاهر التدين ، ويلوّحون بالبعد ( الديني ) للإرهاب .. مستغلين الــ ( فوبيا ) ، التي انتابت الدولة ، من موجة العنف والإرهاب ، التي اجتاحت البلاد ، ورفع منفذوها شعاراً ( إسلامياً ) . الإسلاميون في المقابل ، في حملتهم ضد الليبراليين ، يذكّرون السلطة بالأساس الديني ، الذي قامت عليه الدولة ، وتقوم عليه شرعيتها ، ويحذرونها من الاستجابة لضغوط الليبراليين ، الذين يصفونهم بـ ( الطابور الخامس ) ، الذي يَسْتَقْوي بالخارج .. الأجنبي .
س10 : ما مدى مساهمة ابداعات الإسلاميين في السعودية في هذا الحراك ؟
مساهمة الإسلاميين ، في الحراك الاجتماعي والثقافي في المملكة ، تأخذ شكل الممانعة والمدافعة الشفاهية والخطابية . أما إذا كان المقصود بمساهمة ( إبداعات الإسلاميين ) في ذلك الحراك .. الأعمال الإبداعية ، من شعر وقصة ورواية ، فهذا محدود جداً .
س11 : هل تعتقد أنك جزء من هذا الحراك ومشارك فيه ؟
أظن أني أحد الإسلاميين ، الذين يسهمون في الحراك الاجتماعي والثقافي في المملكة ، من خلال ما أكتب ، أو عبر مشاركاتي في فضاء الإعلام بشكل عام .
س12 : حـركة الثقافة في السعودية ، هل تراها متسقة مع حركة التدين العام في السعودية ، أم متضادة معها ؟ أي هل استطاع الإسلاميون أن يؤثروا في مسار هذه الحركة بالقدر الكافي ؟
الوصول إلى الكمال أمرٌ مستحيل . لكن للمملكة العربية السعودية وضع خاص ، في التعاطي مع الشأن الثقافي . هناك معطى ديني رسالي ، ومعطى تاريخي ، وآخر جغرافي ، يصوغ قدر المملكة . من هنا فأنا بالتأكيد ، لست مع ثقافة تناصب الدين العداء . لا أستطيع أن أقول .. على إطلاق ، أن الثقافة في المملكة ، مع التدّين أو ضد التدّين ..! المعادلة ليست بهذه الحدية . القراءة التاريخية لواقع الثقافة في المملكة العربية السعودية ، تساعد في فهم المشهد الثقافي .
ابتداءً .. سيطرت لعقود ، على الحياة الثقافية في المملكة ، ثقافة دينية محافظة جداً ، وبلون واحد . بقدر ما كرّس هذا الوضع ، سطوة باتجاه أحادي .. وحد الحالة الثقافية للبلاد ، فقد خلق كذلك ، حالاً من الوهن والسكون في مجمل الحياة الثقافية . هيمن إحساس مطلق ، بالنقاء المعرفي والفكري ، فخلق شعوراً بالكمال ، وصار التنوع والاختلاف .. في غير القطعيات ، شكلاً من أشكال البدعة ، ومظهراً من مظاهر الانحراف . ثقافة ( السكون ) التي سادت لفترة طويلة ، أفاقت على طوفان تداعيات أحداث سبتمبر ، لتكتشف أن السدود الثقافية التي أقامتها ، تحت مسميات الخصوصية والنقاء .. قد انـهارت . لا الخصوصية ، بحدودها الصغيرة .. صمدت ، ولا النقاء ، بواقعه الساذج البريء ، كان قادراً على النجاة ، من الطوفان المعرفي المتنوع .. الذي صار يتدفق من مختلف مصادر المعرفة .
حركة التدين العام في المملكة ، نتيجة لذلك ، وجدت نفسها أمام ثقافة متعددة المصادر ، لم يعد لها علاقة بثقافة ( السكون ) القديمة .. بل أحياناً تحمل نفساً عدائياً لها . الإسلاميون أمام هذا الوضع المستجد ، انقسموا إلى فئات . فئة تمسكت بالقديم السائد ، على أساس أنه هو طوق النجاة . هذه الفئة لم تستوعب حجم المتغيرات ، وظلت على خطابها القديم ، الذي يبشر بالنقاء ، وبقيت تراهن على قواعدها .. التي أخذت تتقلص . فئة أخرى .. استوعبت الصدمة ، وأعادت صياغة خطابها ، وغيرت من أولوياتها . فئة ثالثة ، أحدثت الصدمة لديها خللاً أفقدها توازنها ، وانتهى بها المطاف لتذوب في خطاب ( الآخر ) ومشروعه .
س13 : هل كنت تتمنى أن يكون هناك اتجاهاً واحداً في السعودية أم ترى أن التنوع والاختلاف يشكلان دافعاً ومحفزاً لتقديم الأفضل ؟
بالنـسـبة لي شخصياً ، أرى أن التنوع ، ضمن إطار عام واحد ، وعلى أساس من وحدة المرجعية .. أدعى للإبداع ، وأكثر تحفيزاً لأداء أفضل . هيمنة الرؤية الواحدة ، يضعف الاجتهاد ، ويقتل الإبداع . لابد من التفريق هنا ، بين الفوضى والتنوع . المرجعية وأعني بها الإسلام .. هي ما يصنع من التنوع مزيجاً متجانساً ، يسير في اتجاه واحد . أمّا إتباع الهوى ، و ( الأجندات ) الشخصية .. فيفرز فوضى من الأهواء والعناصر المتنافرة .. بدعوى الحرية .
س14 : إلى أي مدى مثلت تجربة مشاركة الشباب السعودي في الجهاد الأفغاني ، رافداً بالنسبة لمسيرتك الإبداعية ؟
تـأثرت بالجهاد الأفغاني ، من حيث هو فعل أفراد ، من كافة أنحاء العالم الإسلامي .. مارسوه بتلقائية ، وتداعوا إليه ، إنطلاقاً من وحدة ا لأمة . لم يكن للجهاد الأفـغاني تأثيراً على أعـمالي الإبداعية ، إلا بالقـدر الذي وظفت فيه بعـض أحـداثه ، في روايـتي ( نقطة تفتيش ) .
س15 : في عملك الروائي الأخير ( نقطة تفتيش ) ، وهو عمل كتب عنه الكثير ، وأغلب ما كتب عنه ، ركز على تجاهل الحضيف ، بخلاف مجايليه ، من الروائيين ، لتناول الممنوع الاجتماعي في السعودية ، واقترابه من السياسة ، ألم تفوت على نفسك فرصة الشهرة ، التي يوفرها الولوج في قضايا مثيرة مثل الجنس مثلاً ؟
في ( نقطة تفتيش ) ، أو غيرها من النصوص التي كتبتها .. مثل " ديمي .. حب أول " أو " موضي حلم يموت تحت الأقدام " ، لم أكتب من أجل الشهرة والمتعة ، أو لذات الكتابة .. أو ما أتفق على تسميته : " الفن للفن " ، على اعتبار أن الكتابة الإبداعية فناً من الفنون . أنا أتبع فيما أكتب ، مدرسة : " الفن للرسالة " . منذ اجترحت فعل الكتابة ، وهم الرسالة يتلبسني . قد أبدو فيلسوفاً ، أو ( طوباوياً ) ، حين أقول أن الشهرة والمتعة ، التي تمنحها الكتابة في مواضيع محددة ، أو ما سمّيته أنت ( الممنوع الاجتماعي ) .. لا تغريني . لأكون أكثر وضوحاً ، دعني أروي لك الموقف التالي : مرّة كنت في سيارتي ، ومعي أحد دواوين نزار قباني . في لحظات التوقف الطويلة .. وهي إحـدى ( فضائل ) حركة المرور البطيئة في الرياض ، أنهمك بقراءة بعض نصوص قبّاني . كان ثمت لغة ممتعة عند نزار ، يمضي الوقت في تذوقها . عند لحظة معينة ، طويت الديوان ووضعته جانباً ، ومددت يدي بعفوية ، وفتحت الراديو . جاء صوته رخيماً ، هادئاً عميقاً .. كان الشيخ عبد العزيز بن باز ، استـمعت بهدوء .. لكلامه . أشياء كثيرة عرفتها في ذلك الحديث القصير . انتهى البرنامج ، لكن بقي صوت عبد العزيز بن باز ينساب في شراييني .
تأملت ، كلا الرجلان .. عبد العزيز بن باز ونزار قباني رحلا . كان نزار يملأ الدنيا ، وتتـلقف كلماته الأسماع ، وتخبيء العذارى ، كما يقول ، دواوينه تحت وسائدهن . غاب نزار .. فأختفى من المشهد في غيهب التاريخ ، وغابت بغيابه الشهرة . أصبح فقط ، مادة دراسية لتاريخ الشعر العربي الحديث ، ولم تعد المتعة بشعره هي المتعة . عبد العزيز بن باز رحل هو الآخر .. بجسده ، لكن ظل ما كان يقول ويكتب ، يمنح رؤية وبصيرة ، لمن يقرأه متعمداً ، أو يستمع إليه قاصداً . تقاسمه التاريخ والحاضر والمستقبل . نزار قبّاني يمثل منهجاً ، ويتبع مـدرسـة لست منها ، وعـبد العزيز بن بـــاز ينتمي للمـدرسة التي أؤمن بها : " الكتابة للرسالة " . لذلك .. سيظل عبد العزيز بن باز ، يؤثر في أجيال تأتي ، وهو ما لا يستطيعه نزار قباني .
الممنوع الاجتماعي ، الذي ذكرت أني لم أتناوله .. لا يدخل في مفهوم ( الكتابة الرساليّة ) ، التي كرّست قلمي لها . إضافة إلى أني أعد هذا النوع من الكتابة ، هو من باب التكسب والارتزاق بـ ( خـطـايا ) المجتمع وأخطائه ، والترويج لـ ( ثـقـافة العري ) . هل رأيت أحداً يتحدث بـ ( هفوات ) أهله أمام الملأ .. ليقوّم سلوكهم ..؟ لقد عدّ الله سبحانه هذا الفعل من قبيل " الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا " . بئست الشهرة ، إن كانت حديثاً عن الجنس ، وترويجاً لعلاقات محرمة .
س16 : هـل لك موقف معين ، من تناول مثل هذه القضايا ( الجـنس ) ، في العمل الروائي ؟ خاصة أن الرواية العربية ، تراوح بين الجنس ، والدين ، والسياسة ، وأنـت لم تستخدم ( الجنس ) في أعمالك القصصية ، لكنك استخدمت الدين والسياسة ، في منجزك ( نقطة تفتيش ) ؟
موقفي من الحديث عن الجنس ، في عملي الروائي ، تحكمه القواعد الشرعية ، والضابط الأخلاقي . كما أني رجلٌ لي قيمتي ومنزلتي ، بين أهلي ، وفي مجتمعي ، والخوض في مثل هذه المواضيع ، تحت أي ذريعة ، يسلبني تلك القيمة ، ويسقطني من تلك المنزلة . إعتزازي بذاتي .. كذلك ، يجعلني أترفع عن الحديث في مواضيع ، يعتريها الإثم ، ويرفضها الأخيار في مجتمعي ، وتؤذي أهلي .. ويمجها الذوق العام .
فيما يتعلق بمقاربة الدين والسياسة في روايتي " نقطة تفتيش " ، أنا لم أهتك ( تابو ) .. أو أقترف محرماً .. ولم أقحمهما لأجل الإثارة فقط . لم أوظف الدين والسياسة بقصد ، بل كان ثمة أحداث ، امتزج فيها الديني بالسياسي ، فسعيت .. بوصفي كـاتباً ، يملك رؤية ( أيدولوجية ) معينة .. أن أعيد قراءة الأحداث ، وأقدم تفسيراً لها .. إنطلاقاً من ذلك الموقف ، وعلى ضوء قراءتي للأحداث .
س17 : الكثيرون قالوا أن أسماء أبطال ( نقطة تفتيش ) ، هي أسماء لشخصيات حقيقية .. هل هذا صحيح ؟ وهل هذا يعني أن الرواية عبارة عن قصة حقيقية أبطالها يعيشون بيننا الآن ؟
تقوم رواية " نقطة تفتيش " على الواقعي والمتخيّل . شخصياتها التي صنعت الأحداث إفتراضية ، وجزء كبير من أحداثها متخيّل ، ومحاكاة لواقع يمكن أن يحدث . لذا .. فإنها عمل روائي محض ، اعتمد آليات العمل الروائي . لـذلك ، لا يمكن اعـتبارها ( سيرة ذاتية ) لأشخاص بأعيانهم ، ولا رصداً ( تاريخياً ) لجملة أحداث محددة .
س18 : هل ترى أن رواية ( نقطة تفتيش ) كانت بمثابة ( فتوى مثقف ) ، فيما حدث في الرياض الأعوام الماضية ، من عنف وتفجير ؟
" نقطة تفتيش " عمل روائي ، حاول أن يفكك مكونات ظاهرة العنف والإرهاب ، التي ضربت المملكة ، وبلدان عربية وإسـلامية أخرى . لا يمكن الحديث عن سبب ( واحد ) للظاهرة . أحداث العنف والإرهاب ، تشتمل على مكون فكري ، وسياسي ، وآخر ديني ، ورابع أمني ، وهكذا . في " نقطة تفتيش " حاولت من منطلق فهمي لآليات التفكير ، لدى الشباب الجهادي ، ومستعيناً بمتابعة جادة لبدايات نشوء الظاهرة ، والمراحل التي مرّت بها ، والسياسات التي تؤججها .. أن أقدم قراءة تفسيرية للحدث . أزعم أنها ، من ( مثقف ) منغمس في الظاهرة ، وقادر على فهمها أكثر من غيره ، بوصفه مواطناً .. تقع الأحداث في وطنه ، ومتديناً .. يمارس العنف باسم الإسلام ، الذي يدين بالولاء له . في " نقطة تفتيش " أيضاً ، أردت أن ( أوثق ) لمرحلة .. سيغفلها الجميع ، لأن الأقوى هو من يكتب ( التاريخ ) ، والأمة الآن في رحلة انحدار .
س19 : لماذا كنت أول مثقف وأديب يقول كلمته بهذا الوضوح في عمليات التفجير ؟ وهل يمكن القول أن المثقف السعودي منعزل عن بيئته وما يدور فيها ؟
لست في مقام الحكم على ( المثقف السعودي ) .. بشكل عام ، باتهامه بالانعزال عن هموم بيئته . تحكم المثقف السعودي اعتبارات كثيرة ، حين يتعاطى مع شأن وطني خطير ، يختلط فيه الديني بالسياسي . هناك من تتغلب المصلحة ، والأجندة الشخصية عنده ، على الصالح العام ، عند التعامل مع قضايا المجتمع . فريق آخر ، تكون الرؤية لديه غائمة ، فتأتي أحكامه غير دقيقة . مجموعة ثالثة ، يؤثر أفرادها الإنسحاب والانعزال . إمّا لعجز عن المواجهة .. لأسباب شخصية أو فكرية ، أو إيثاراً للسلامة .
س20 : هل تعتقد أنك أجبت ( في الرواية ) على كل الأسئلة القلقة التي ظهرت بعد حدوث العنف ؟
لا يمكن أن أدّعي أني في " نقطة تفتيش " ، قد أجبت على ( كل ) الأسئلة المتعلقة بالعنف .. ولا أن إجاباتي قطعية ، لا تقبل النقاش .
س21 : برأيك هل يمكن أن تصنع شهادات الأدباء والمثقفين واقعاً مغايراً في المجتمع ؟
نعم .. هناك ( مثقفون ) ، ليس فقط يصنعون واقعاً مغايراً ، بل يغيرون مسار التاريخ . يسـتطيع المثقف بموقفه وبأفكاره ، أن يعيد ترتيب الأحـداث ، ويمنع ( اختطاف ) حركة التاريخ وتوجيهها ، إلى غير مسارها الطبيعي . أحـمد بن حـنبـل الفقيه ( المثقف ) ، قاوم سلطة ثلاثة خلفاء . وقف .. وقال كلمته ، وبقي صامداً دونها . لك أن تتخيل كيف كان التاريخ .. فكراً وأحداثاً ، سيمضي لو لم يكن هناك ( مثقفاً ) اسمه أحمد بن حنبل .
في عصرنا الحديث ، استطاع مثقف مثل سيد قطب ، أن يحدث زلزالاً في بنية الفكر الحركي الإسلامي الحديث . إن أثار أفكار سيد قطب ورؤاه ، لا يمكن لأحد أن يتجاوزها ، حين يدرس التحولات العميقة التي تعرضت لها المجتمعات العربية .. خصوصاً النخب والمجاميع الطلابية .. منذ ستينات القرن الماضي ، فيما يتعلق بمفهوم الدولة ، والعـلاقة بـ ( الآخر ) .. ومسألة الحاكمية . إنها قدرة المثقف ، حين يلتزم بقضيته . وقدرته قبل ذلك ، في أن يصوغ رؤيته من واقع مجتمعه ، فتنبثق من قلب الهم الثقافي والاجتماعي للفرد .
في الأرجنتين ، رجل مثقف مثل خورخي بورخيس ، الشاعر والكاتب ، قادت رؤاه إلى تحولات اجتماعية عميقة في معظم أمريكا اللاتينية ، وكان لها دور في تشكيل ثقافة نضالية ، ضد الهيمنة الامبريالية الأمريكية ، التي كانت تعد دُول أمريكا الجنوبية ، حديقتها الخلفية .
أدت هذه الثقافة إلى نشوء تيارات وطنية ، نزعت تلك الدول ، نحو مزيد من الاستقلال عن النفوذ الأمريكي .. وقادت في النهاية إلى استلام حكومات ، مدعومة شعبياً ، زمام السلطة .
س22 : محـطـات عـديدة كـانت في حياة محمد الحضيف .. فأيهما كانت الأقرب إلى مزاجه .. هل هي الصحافة أم الرواية .. العمل العام .. العمل الأكاديمي ؟
العمل الأكاديمي ، بعكس العمل العام .. هو الذي أجد فيه نفسي . كان هدفاً خططت له ، وسعيت لتحقيقه من يفاعتي . كانت خطواتي إليه مزيج من عمل دؤوب ومشاعر فياضة . أتذكر تلك اللحظة التي هنأتني فيها لجنة المناقشة ، لرسالتي الدكتوراة : تهانينا .. دكتور محمد . خرجت إلى الشارع ، وكان يوماً ربيعياً ، هو الأول من فبراير . اختفت المشاهد كلها من أمامي .. الناس والجمادات ، ولم أعد أرى إلاّ صندوق الهاتف العمومي الأحمر . ولجت فيه ، واتصلت على زوجتي : خلّــصت ..! وسمعت صرختها على الجانب الآخر . جئت وأنخرطت في التدريس في جامعة الملك سعود . ثلاث سنوات مرّت ، كحلم وسنان . أتوجّد على تلك ( اللحظات ) ، التي لم تكن أكثر من أعوام ثلاثة . كان حلماً جميلاً ، حوصر .. واختنق . أما الكتابة .. فتبقى ملكوتاً ، لا أستـطيع الفكاك منه .. بل هي التي صنعتني . لا أدري .. لو كنت لا أكتب ، كيف سأعيش ؟
س23 : هل ترى أن هذا التنوع قلص من مساحة اهتمامك بالأدب ؟
التنوع في محطات حياتي ، أثرى تجربتي . منحني هامشاً واسعاً للحركة والاقتراب من شرائح مختلفة في المجتمع . العمل الأكاديمي في الجامعة ، كان الأقرب لقلبي ، لأني كنت أتعامل وأتفاعل مع ( الناس ) ، من زملاء وطلاب وطالبات . البعد الإنساني في العمل الأكـاديمي ، يقضي على الرتابة التي توجد في العمل العام . كل ( انسان ) تتعامل معه في الجامعة ، له قصة مستقلة ، وحديث مختلف ، ولديه حكاية .. تستحق أن يستمع إليها . أستفدت من ( محطات ) حياتي المختلفة ، في اثراء تجربتي الأدبية ، بشخصيات ، وقصص وأفكار مختلفة .
الجانب المزعج في تنوع محطات حياة الإنسان ، هو الشعور بعدم الاستقرار . كلما ظننت أن رحالي قد استقرت .. يأتي ( طارق ) يؤذنها برحيل . ليس أقسى على الإنسان من الاحساس بعدمية المكان ، سواء كان مرتبطاً بمهنة ، أو متعلقاً بوطن يريد أن ينتمي إليه ، بكل ما أوتي من حب .. لكنه لا يمنحه الفرصة . في ظروف مثل هذه ، تتقلص مساحة الاهتمام .. ليس بالأدب فقط ..!
س24 : هل تنوي أن تتخصص مساحات أكبر في المستقبل للأعمال الأدبية خاصة وأنك أصدرت خلال العامين الماضيين أكثر من عمل أدبي ؟
يسكنني هم الحرف والكلمة ، وأتمنى لو خفّت إلتزاماتي الأسرية والإجتماعية ، لأتفرغ للكتابة . في ذهني الآن أكثر من مشروع كتابي ، صارت نفسي تلح علي أن أبدأ بها .. ولعل الله أن يخفف ما بي من هموم ، ويرفع عني ما تراكم عليّ من مسؤوليات ومشاغل .. لأعطيها جزءاً من الوقت .
س25 : كيف تنظر إلى أفكار الحضيف في بداية التسعينات والآن .. ما الذي تغير وما الذي بقي منها ؟
الذي لا يتغير .. شخص لم يتعظ من أخطائه ، ولم يستفد من الدروس والتجارب . محمد الحضيف الآن ، غيره في التسعينات . ابتعد .. بمسافات فكرية ومنطقية . كنت في التسعينات مدفوعاً بأحلام كبيرة ، وآمال عراض . بعض الأحلام ، كانت من نوع ( حرق المراحل ) ، وبعض الآمال حلقت وحدها ، بعيداً عن الواقع ، وسيرورة التطور الطبيعي للمجتمعات .
كنت من جيل ( صحوي ) مسكون بهاجس الإصلاح .. والقيم الكبرى . تدغدغ أحلامه ، العدالة ، والتوزيع العادل للثروة ، ومبدأ تكافؤ الفرص ، ودولة المؤسسات . يحلم بدولة كبرى .. دون الخــلافة (!! ) ، ويتطلع إلى عـلاقة ندية مع أمريكا ، لها روح ( هارون الرشيد ) .
هذا .. كان محمد الحضيف في التسعينات . بدأ أحلامه (الإصلاحية ) ، بلجنة ( حقوق الإنسان ) .. وانتهت به في زنزانة ، يحفر بأظافره على جدرانها ، أشعار ( المقاومة ) . الآن .. ما الذي تغير ، وما الذي بقي ..؟ أشياء ( كثيرة ) تغيرت : لجنة حقوق الإنسان ، التي دفع محمد الحضيف سنوات من زهرة عمره بسببها ، أسست بأمر ( رسمي ) . أشياء ( كبيرة ) بقيت من محمد الحضيف : القيم الكبرى ، ودروس الماضي .. و ( صحوة ) ملأته .. و ( ما زالت ) أحلاماً ، ووطن ماانفك يطمح ان يراه (كبيرا) .