نص البحث حول المناهج الدينية الذي طرح خلال ملتقى الحوار الوطني الثاني بمكة
المقررات الدراسية الدينية أين الخلل
قراءة في فقه التعامل مع الآخر والواقع والحضارة في المقررات
إعــــداد
الباحث الرئيسي الباحث المساعد
إبراهيم السكران عبد العزيز القاسم
المدخل
الخطاب الديني الوظيفة والأهداف
يشكل الدين المكون الأساسي للشخصية، وتتميز الشخصية الدينية للمسلم بعمق التكوين وامتداده، فالإسلام يخاطب المسلم برؤية تتناول الجوانب الأساسية للحياة وعالم الغيب والعبادات والآداب؛ الأمر الذي أدى إلى عمق تأثير الخطاب الديني في حياة المسلمين، بيد أن هذا الخطاب قد يتعرض لآفات تنحرف به عن مساره المرسوم له شرعا، فقد يأخذ التدين منحى انعزاليا كما حدث لكثير من تيارات التربية والسلوك، وقد تذهب التربية الدينية نحو تعبئة الإنسان في حركة ثورية عارمة كما فعلت تيارات الخوارج، وقد يكون الخلل أقل من ذلك كتغليب ظاهر النص على معناه ومقاصده كما نحت الظاهرية، وقد يبالغ في تغليب المعاني حتى تتناقض مع صريح النصوص كما جرى في التفسير الإشاري والتأويلي للدين الذي ذهبت إليه طوائف من السلوكيين والفلاسفة.
إن تغليب أحد جوانب النص يؤدي إلى إهمال جوانبه الأخرى ويترتب على ذلك تشويه معنى الدين وسلوك المؤمنين بهذا التفسير المتحيز لبعض النصوص، من هنا تأتي أهمية مراجعة توازن الخطاب الديني لإعادته نحو استيعاب مجمل النصوص وفقا لقيم الدين الأساسية ومقاصده الكبرى، حتى لا تتحول المعارك والانفعالات التي أنتجت تفسيرا متحيزا للدين إلى واقع ديني متحيز إلى بعض النصوص على حساب بعض.
لقد ركزنا في مراجعتنا لمناهج العلوم الشرعية في التعليم العام للبنين على مجموعة من وسائل التقويم الفقهية منها:
أولا: قراءة استيعاب مجمل النصوص في القواعد التي يقررها المنهج خاصة في قضايا العلاقة بالآخرين، بحيث يقرر المنهج القواعد التي تجتمع بها دلالات النصوص بدلا من الانحياز نحو معنى من المعاني الشرعية وإهمال ما يتعلق به من النصوص والمعاني الشرعية مثل التوازن بين موالاة المسلمين وبين تصحيح أخطائهم، والتوازن بين التعلق الوثني بالدنيا وبين عمارتها العمارة الشرعية.
ثانيا: مراجعة مدى مراعاة المنهج لتدرج أهمية وأولوية الكليات الشرعية؛ فتقرير عصمة الدماء مقدم على بيان دقائق العقوبات التعزيرية التراثية التي ذكرها بعض العلماء في حق المخالفين في المسائل الكلامية الشائكة، والخلل في مراعاة الأولويات يؤدي إلى خلق بيئة تضطرب فيها الحقوق الأساسية تحت ضغط كثرة الاستثناءات الفرعية القليلة والنادرة ويفتح أبواب الاستخفاف بالدماء والأعراض وغيرها من الحقوق.
ثالثا: قراءة مدى عناية المنهج بتقرير مبادئ العدل خاصة في الحقوق الشرعية الأساسية للإنسان في التعامل مع الآخرين من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم، ذلك أن العدل هو أساس العلاقة مع الناس بل هو مقصد الشريعة الأكبر قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، فإذا تحدث المنهج عن أخطاء المخالفين قبل تقرير قواعد العدل معهم أوشك ذلك أن يخلق سلوكا عدوانيا منفلتا من قواعد العدل التي قامت عليها الشريعة والرسالات.
رابعا: قراءة عناية المنهج بتقرير القواعد الشرعية للتعامل مع الحضارات والمعارف من حيث ضبط قواعد اشتراك الناس في المباح والمعرفة واستدماج النافع المفيد منها ما لم يناقض أصول الشرع ومقاصده، ورد ما يناقض أصول الشريعة ومقاصدها، ومراعاة القواعد التي تضيء للطالب منهجية التعامل مع الحضارة المعاصرة دون توتر وقلق من جهة ودون خضوع لمنطلقاتها المناقضة للشريعة كتقديس المال، وتجاهل مؤسسة الأسرة.
خامسا: قراءة عناية المنهج بالمشاركة المدنية التي تقدم للمتلقي قنوات التعبير السلمي البناء عن قناعاته ومصالحه، بحيث لا يتركز المنهج على تكوين قناعة المتلقي بالانفصال عن مؤسسات مجتمعه؛ الأمر الذي يؤدي إلى أن ينفرد بمبادرات خارج قنوات المجتمع المشروعة.
سادسا: مراجعة مدى وضوح المنهج في تكوين توازن للمتلقي بين توظيف وسائل البناء المدنية في تحقيق الأهداف، ومراجعة مدى تركيز المقررات في تحقيق الأهداف على المواجهة بمختلف وسائلها.
إن إنجاز تقويم المنهج من خلال هذه المعايير يصعب تنفيذه بدرجة متكاملة بيد أننا بذلنا من الجهد والوقت في قراءة وتحليل مكونات المنهج ما مكننا من الوصول إلى رؤية واضحة معززة بالنماذج والأمثلة، وقد حاولنا تجاهل الخلل المنفرد لنركز على ما يمكن أن نسميه بالنظريات التي تحرك عناصر المنهج بحيث نستخلص النظرية ثم نقدم نماذج لتطبيقاتها؛ ذلك أن الخلل في الرؤية أكبر خطرا من الأخطاء الجزئية العارضة، بل إن الرؤية الكلية هي التي يخرج بها الطالب في نهاية المطاف من قراءاته الدينية في مناهج التعليم، وهذا يوجب على الباحثين إعادة قراءة المقررات لضمان تحقيقها للتوازن الشرعي في شخصية الطالب، بحيث تتزن لديه التكاليف الشرعية، وتنضبط الحقوق، وتتضح له رؤية دينية سوية متسقة مع أصول الشريعة ومقاصدها.
إن هذا العمل -مراجعة المقررات وضبطها بأصول الشرع- يأتي في ظروف دقيقه على رأسها حملات الإعلام الغربي ضد بلادنا، وربما أوضحت هذه الدراسة أن تحميل المناهج الدينية مسئولية تحريك العنف المسلح ضد الغرب أمر مبالغ فيه؛ إذ لا يمكن أن تكون السبب الأساسي، ذلك أن أخطاء المناهج الحالية تؤذي علاقة المسلمين بعضهم ببعض أكثر من تحريضها على غير المسلمين، فنحن بحاجة للتصحيح لمصلحتنا أكثر من حاجتنا لتحقيق ما يغضب مراكز القوى، والواجب ألا نستنكف عن أصلاح أخطائنا لمجرد دعوة غيرنا إلى بعض ذلك، وهذا المعنى مقرر في كتاب الله تعالي حين استنكر الكفار على المسلمين القتال في الشهر الحرام فأقرهم القرآن على إنكار الخطأ وأمر المسلمين بتجنبه، والمهم هو أن يتركز الإصلاح لتحقيق مقاصد الشريعة وحماية مصالحنا.
لقد بينت لنا دراسة المقررات أن اضطرابا شديدا يموج بمحتوياتها، في قضايا جوهرية تمس طمأنينة الطالب، وحقوق المسلمين، وأصول التعامل مع غير المسلمين من أهل الكتاب والمشركين، وقواعد التعامل مع المعارف والحضارات، وهو اضطراب يخالف أصول الشريعة، بيد أنه لا يبلغ المدى الذي ادعته حملات وسائل الإعلام الغربية لكن ذلك لا يمنع من الإقرار بالأخطاء والعمل على إصلاحها وهذا ما سنوضحه بإيجاز في صفحات هذه الورقة، وسنقترح منهجية معالجة هذا الخلل.
يتبع............