لا أضن أن هذا الذي سرّب صور التعذيب في أبو غريب، سيشنق وتنسف عائلته بالكامل كما يمكن أن يحدث في أي بلدٍ عربيٍ من بلدان القبائل والطوائف والجمهوريات الوراثية، لمن يفعل أقل من هذا بكثير …!
مطلقاً …!
بل من الأكيد أنّه ستنهال عليه الأموال من أكثر من مصدر، صحف …مجلات … هوليود… وشركات الإنتاج السينمائي …!
وقد نراه غداً أو في العام القدم مليونيراً من كبار مليونيرات أمريكا …!
وسيتقاعد من الجندية ويتفرغ لكتابة مذكراته …!
الصور التي فضحت ممارسات تعذيب البعثيين القتلة ( وحلفائهم من أسرى القاعدة وعملاء الجوار )، وحشرت بوزير دفاع القطب الأوحد والقوة العظمى في قفص اتهام ضيقٍ أمام الكونغرس، وأجازت لبسطاء شعبه أن يشتموه ويهينوه، بل ودفعت رئيس تلك الدولة ذاتها ورفيقه في بريطانيا إلى إعلان الاشمئزاز والاستنكار والاعتذار والأسف وإعلان التوبة والاستعداد لتقديم التعويضات، ثم دفعت العالم الديموقراطي الغربي كلّه إلى الاستنكار والشجب والإدانة، تلك الصور … تلك الوريقات اللامعة الملونة أو ربما بيضاء سوداء … فعلت في البيت الأبيض بل بيوتٌ بيضاء عديدة في الغرب، ما لم يفعله فيه كل أعداء أمريكا أيام عزّهم … السوفييت والصينيون وإرهابيو الوهابية.
وهذا في واقع الحال وحقيقته انتصار للديموقراطية الغربية على الصعيد العالمي كلّه …!
إنه انتصار للأمريكان… لأن الديموقراطية خيارهم وهذا بعض علقمها، إذ لا يمكن أن تكون جميعها عسلاً … أو أن تكون عسلاً للجميع …!
وإلا لما كانت ديموقراطية، بل لكانت جنةٌ عنصريةٌ طائفيةٌ سلفيةٌ لا وجود لها إلا في خيال المحبطين جنسياً …!
إنه انتصار النموذج الأمريكي في الحكم والأعلام وإن جاء على هامش هزيمةٍ في إدارة بلدٍ محتلّ..!
انتصار الديموقراطية في الغرب على نماذج التخلف والهمجية والقسوة والعنصرية التي نملكها ويملكها جميعُ جيراننا في هذا الشرق المريض الراقد على بيضة الماضي بشبقٍ ساديٍ مازوشيٍ بذات الآن …!
لقد منحت كاميرا الديموقراطية الأمريكية لمئات الأقلام الهزيلة الرخيصة في صحف العروبة والإسلام في منطقتنا، فرصة شتمٍ وشماتة وتشفي وقذفٍ وسبٍ لا تحصل إلا مرّةٍ كل مائة عامْ.
منحتهم فرصة الإحساس بوهم انتصار نماذجهم على النموذج الأمريكي، أعطتهم بعض الثقة بمستقبلهم ومستقبل نموذجهم على أساس أن النموذج الأمريكي سهل الكسر إذ تكسره آلة تصوير صغيرة، وما دروا إن هذا الذي يبدو ضعفاً هو وحده الذي جعلهم أعظم قوةٍ في التاريخ ومكنهم من تحطيم أو تحييد أقوى وأقدم الإمبراطوريات وأغناها ( اليابان- روسيا- ألمانيا – إنجلترا -الصين )، وذاته ما مكنهم من غزو الفضاء والارتقاء بالعلوم إلى مستويات ما كان من الممكن تخيل إمكانية الوصول إليها …!
لقد دخل أبو غريب وعشرات السجون السرّية التي هي أقسى وأقذر من أبو غريب، وعبر عشرات السنين من حكم الفاشية الطائفية الصدامية، مئات الآلاف من العراقيين، ولم يسلم أحدٌ منهم من تعذيبٍ متواصلٍ لأشهر وسنين، ومات من مات تحت التعذيب وأعدم من أعدم عقب الإقرار بالذنب إكراهاً وتحت طائلة التعذيب الذي لا يطاق …!
مئات الآلاف، بعضهم رحل إلى المقابر الجماعية وآخرٌ أذيب في أحواض ( التيزاب )، وقلةٌ خرجوا وهم يحملون عاهةٍ مستديمة…!
حصل هذا، فهل سمع أحدكم بشيءٍ من هذا من قناةٍ تلفزيونيةَ أو قرأه أو طالع صوره في صحيفةٍ من صحف العروبة…؟
مطلقاً …!
وحصل هذا ليس في العراق حسب، بل في أغلب الدول العربية، ولا زال يحصل كل يوم …!
هل جرؤت صحيفة الوفد مثلاً على التحدث عن شيء من هذا الحاصل في مصر ومصر مجال عملها الحيوي غذ هي صحيفةُ معارضة ويفترض أن تفضح ممارسات حكام بلدها لتنال الاحترام والقبول والدعم من جماهير شعبها.
هل جرؤت صحيفة البعث أو تشرين عن وصف أحوال سجناء المزّة أو انتهاكات حقوق الإنسان الجارية ضد الكرد والعرب من غير الببعثيين في سوريا …؟
مطلقاً …!
ولن تفعل، ولكنها الديموقراطية الغربية وحدها من يفضح جرائمنا وجرائمهم بذات الآن …!
القلم الغربي والكاميرا الغربية والقناة التلفزيونية الغربية هي وحدها منن يفضح، وهذا هو الدرس لأولئك الذين هللوا لهزيمة أمريكا الموهومة في العراق …!
أمريكا لم تهزم، والديموقراطية الأمريكية التي وعدوا بها لم تهزم، بل إنها انتصرت، لأن الديموقراطية لا تعني أن لا يكون هناك خطأ، ولكن أن يوجد من يفضح هذا الخطأ ويعتذر عنه، وهذا هو الدرس المفيد لنا ولساستنا وقادة المستقبل …!
تعلموا من الكاميرا الأمريكية واحترموا الكاميرا الأمريكية لأنها عين الديموقراطية التي لا تنام …!