الوقفة التاسعة والعشرون : عَظَمَةُ الصَّلاة :
قال تعالى : {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا , إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا , وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا , إِلَّا الْمُصَلِّينَ , الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ , وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ , لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ , وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ , وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ , إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ , وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ , إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ , فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ , وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ , أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} سورة المعارج .
تتحدث الآيات الكريمة عن صفات المؤمن السالم من الذم المذكور في أول الآيات , وهو الهلوع , الذي يجزع من الفقر , ويبخل مع الغنى , وقد لفت انتباهي في صفات المؤمنين الذين استثناهم الله تعالى - بدءاً من قوله ( إلا المصلين ) إلى نهاية الآيات - أنه سبحانه بدأ بالصلاة وانتهى بها , فبدأ بصفة المصلين بشكل عام , ثم قال : " الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ " ثم ذكر الصفات تباعاً وهي : أداء الزكاة , الإيمان باليوم الآخر , الخوف من عذاب الله , حفظ الفروج , أداء الأمانات , القيام بالشهادة على حقها , ثم ختم الله تعالى ذلك بقوله : " وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ " .
فبدأ بالصلاة وانتهى بها , مما يدل على عظيم أمرها , وخطير شأنها , وجلالة قدرها , وأنها جامعة للدين والأخلاق , ومهيمنة على دين المسلم وأمانته .
ونلحظ هنا أنه في الصفة الأولى قال : " الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ " فأتى باسم الفاعل ( دائمون ) الدال على الدوام لفظاً وصياغة , فكأنه حين ابتدأ بأوصاف هؤلاء السالمين من الذم , بدأ بما هو ثابت عندهم من الأوصاف , فجاءت صفة الدوام على الصلاة لتكون فاتحة لهذه الأوصاف العظيمة .
وأما في النهاية , فلأن المسلم الذي يتصف بهذه الصفات ( أداء الزكاة وحفظ الفرج .. الخ ) محتاجٌ لتقوية إيمانه بالصلاة بين الفينة والأخرى , فجاء لفظ : " وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ " , بالتعبير بالمضارع ( يحافظون ) الدال على المحافظة مع التجدد , أي محافظة على الصلاة في كل وقت تتجدد فيه الصلاة .
وهذا الأسلوب القرآني العظيم تكرر في سورة المؤمنون حين يقول تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ , الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ , إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ, إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ , فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ, أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} سورة المؤمنون .
فبدأ بالصلاة بأسلوب الثبات ( خاشعون ) وانتهى بالصلاة بأسلوب التجدد ( يحافظون ) , وما ذاك إلا ليربي المسلم على الثبات على دينه , وخير ما يثبت عليه ويداوم عليه هو الصلاة , ويربيه أيضاً على التجديد في الصلاة في كل وقتٍ وآن ليزداد إيمانه , وينشط لأداء حق ربه .
ومن خطر الصلاة وعظيم شأنها أن أصحاب النار حينَ يُسألون عن سبب دخولهم النار فإن أول سبب لذلك هو تركهم الصلاة , قال تعالى : {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ , قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ , وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ , وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ , وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} سورة المدثر .
فتأمل معي هذه الأسباب , فمع كون إنكار البعث كفراً محضاً إلا أنهم بدؤوا بالصلاة العظيمة التي أدى تركهم لها أن يصيروا إلى ما صاروا إليه .
والأدلة على عظيم شأن الصلاة , وجلالة قدرها أكثر من أن نحصرها في هذا الموجز , بل وأشهر من أن تُذكر .
نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين
29 / 9 / 1431 هـ