في كل مرة أزور والدي في منزلة المكوم على حاله خلف المسجد العتيق، أجدني أعرض نفسي لحالة ابتزاز حسي يغتصب ذائقتي ويمثل فيها ، حتى أنه أحياناً يكسر ظهر ذوقي الراقي ويرميه في بئر ناضب وموحش مليء بالصراصير والثعابين فيه بعض رفات قوقسية ما بقي منها إلا بضع ريشات تدل على تاريخها! هذا الابتزاز فريد من نوعه وغريب حد الريبة ،وما كان ليكون لولا أن الله قدّره علينا ولا راد لقضائه مادام مكتوباً علينا معشر الجيران! إن صرخات المستعمر الذي أستحل المسجد عقوداً من الزمن ، لهو التعبير عن الاستفزاز والجبرية الذوقية والروحانية، يجعل من عجائزنا دُمى صامته خاشعة خشوع يشبه إطراق الراهبات وليس من الإيمان بشيء ،بل هي لحظات احتضار ..عفواً انتظار نهاية فقرة الصراخ المعتاد ، أما أطفالنا فيتقاسمون الخوف وكلٌ على طريقته ، فبينما الرضيع يصرخ يستلم أخوه حالة الهستيريا .. وآخرين يكون نصيبهم البرطمة مع بضع عبرات تعتري وجه من كان محياه رطب بقدرة قادر تحول إلى عابس لا يطيق الابتسام!
إن لهذا المؤذن العجوز مميزات عديدة منها الكحة والنحنحة بين كل صرخة وأخرى فما سبقه لهذا أحد من قبل ، بعض الأحيان تمطر الغيمات الصغيرات المارقات ،لا لأنه مؤمن وهو كذلك إن شاء الله ولكن لأن صرخته الطرزانيه تزلزل السماء وتحلب تلك المارقات ، ولا أستبعد أنه من الأسباب الرئيسية في ثقب طبقة الأوزون ، كما لا أستبعد أن النجوم تتبادل الأمكنة لاهتزاز الكون من مكبرة العتيق الصدأ، ولهذا أيضاً تظل السفن طريقها وتختفي في برمودا !
يقول أحدهم لولا أنه يبدأ الصراخ بـ الله وينهيه أيضاً بـ الله ، لما فهم أحداً منا معشر المسلمين أنه يؤذن!ولا أستبعد أن كل من لا يعرف الحارة إن سمعه لن يفهم ما خطبه ولن يجيء على باله وقت الصلاة أبداً فسيسرق الهلع عقله ويجعله يترنح كالثمل الذي أسكرته جرة الكولونيا الليمونية!
لقد جرت العادة أن يهلل ويكبر سامعي الأذان ، حباً لما حوا وتقديساً لما فيه من معان وأسماء جليلة وأيضاً إتباعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ لحظة ..هذا في كل بقاع الأرض عدا في حارة والدي وعضواتها المصوّنون بتشديد الواو الأولى! فهم إن هللوا وكبروا فإنهم يعبرون عن شكرهم لله أن الأذان انتهى، عفواً أقصد الإزعاج والنشاز سكن وهدأ!
(أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله أبن زيد أن يعلم بلالا الآذان ، وقال : أنه أندى منك صوتا)