إيف سان لوران: إضافة الأفراد لحياة الشعوب :
ولبعدي الشديد عن عالم الموضة، فقد فوجئت تماماً بموت المبدع الفرنسي، إيف سان لوران، لا لأنه مات، بل لأنه مات فقط في الأسبوع الماضي، وأنا الذي كنت أحسب أنه من أساطير القرن الماضي، ذاك أن النوابغ يحتاجون لفترة طويلة من عمر الزمن كي تكتب حولهم المآثر وتلتف حولهم هالات المجد والشهرة. باختصار كنت مستغرباً أن يأخذ هذا - اللوران - كل هذا الألق وهو مازال حياً يرزق. كم هم الأفراد الذين كانوا إضافة حقيقية في حياة شعوبهم ومجتمعاتهم؟ وعدا أن إيف سان لوران كان وجهاً ثقافياً أعطى لباريس ولفرنسا وللفرنسي صورة أخاذة اصطبغت بالذوق والأناقة والفن، إلا أن تلك الصورة التي تحولت إلى واجهة رئيسية لسمعة أمة فرنسية كاملة ليست كل الإطار ولا هي بالصورة الوحيدة. تحولت قصة موت إيف سان لوران إلى ريبورتاج عولمي: يقول التقرير الذي بثته قناة - دويتشه ويل قبل البارحة إن الإرث الاقتصادي الذي تركته صناعة إيف سان لوران في المجمل الصناعي لدولته يوازي اليوم كامل قيمة ميزانية الدفاع التي تمتلكها فرنسا في ترسانتها العسكرية. وبالتأكيد، فهذه القيمة الاقتصادية الضخمة ليست في جيبه، والملفت للأمر بحسب تقرير القناة أن لوران لم يدخل قط في دائرة الخمسين الأغلى والأغنى ثراء في القاموس التجاري الفرنسي. ما يتحدث عنه التقرير ليس إلا التأثير الذي تركه إيف سان لوران في عالم الجمال والموضة والأزياء والعطور فقامت من حوله صناعة فرنسية متكاملة جعلت من هذا الفن الثانوي، في عشرات الشركات الفرنسية، سادس أكبر حرفة في حجم إسهامها في الناتج الإجمالي القومي للشعب الفرنسي. الفضل والإلهام كان الفرد، والإضافة في حياة شعب كانت لفرد. قد لا يعلم الكثيرون أن هذه الأسطورة الفرنسية ولدت في وهران الجزائرية ثم أوصت بأن تنثر رفاتها في حديقة مغربية مراكشية.
أنموذج آخر: في الثانية الأخيرة التي تكمل آخر دقيقة لديك، تكون سلسلة مطاعم - مكدونالد - قد باعت في ذات الدقيقة خمسين ألف ضغطة مبيعات على لوحة المبيعات الهائلة المنتشرة فيما يزيد اليوم عن 31 ألف نقطة حول العالم. والذي لا يعرفه الكثير أن هذه القصة المدهشة ليست إلا فكرة فرد واحد تذوق شطائر الهامبورجر في مطعم لتتحول ذات الفكرة إلى وجه ثقافي قال عنه توماس فريد مان في كتابه - اللكزس وشجرة الزيتون: إن حرف (m) فوق سلسلة مكدونالد هو الرمز الأول للعولمة الأمريكية. القصة تبدأ عندما كان صاحب الفكرة (راي كروك) يعمل بائعاً متجولاً للحليب في كاليفورنيا فتوقف في مطعم للأخوين ماك وديك مكدونالد اللذين عملا له فطيرة مستعجلة ففاوضهما على شراء - الاسم - في موقع في مسقط رأسه بولاية إلينوى في عام 1955. اليوم تحول الموقع الأول إلى متحف تاريخي يروي قصة السلسلة. هذه واحدة من إضافات الأفراد للشعوب وتأملوا الحقائق التالية من الموقع الإلكتروني لهذه السلسلة. تنتشر إشارة مكدونالد اليوم فوق 31 ألف مطعم في 116 دولة حول العالم في القارات الست، ليستقطب مكدونالد اليوم مليوناً ونصف مليون عامل حول الأرض يعودون إلى 154 جنسية، منهم مئتا ألف عامل أمريكي. المنتج الاقتصادي في فكرة فرد واحد يخدم اليوم في اليوم الواحد 47 مليون زبون كرقم قياسي لأعلى ماركة كونية تستأثر بعدد المرتادين وربع الدخل تماماً يذهب للولايات المتحدة، علاوة على 31 ألف صندوق تبرعات لجمعيات إنسانية وخيرية وطبية يضع فيها الزبائن بقية العملة الحديدية القليلة التي تعود عليهم من فارق السعر.
هذه إضافة الفرد في حياة الشعوب. قبل أعوام قليلة كان بيل جيتس مجرد طالب برمجيات في جامعة أمريكية. وبضربة واحدة لفكرة واحدة تحول الفتى إلى رأس أثرياء الكون بثروة تعادل ميزانية أدنى عشر دول عربية، واليوم لن يستطيع فرد واحد على وجه الأرض أن يتجاهل الإضافة الهائلة لهذا الفرد في حياة البشرية وفي مسيرة التطور الإنساني. اليوم لا يخلو بيت أو مكتب أو شركة أو مدرسة أو جامعة أو حكومة من فكرة الفرد الملهمة التي كانت وحدها ثورة البشرية الحديثة في القرن الحديث. من إضافات الأفراد للشعوب قصة الأخوين رايت وهما يكتشفان قصة الطيران الحديث في قبو منزلهما الريفي. ولسنوات طويلة انهمك الأخوان في عشرات التجارب التي أدت بهما إلى عزلة اجتماعية كانت مثار تهكم المحيطين بهما، حتى من أقرب الجيران وهو يصفهما بالجنون. مات الأخوان في فقر مدقع بعد أن صرفا ما لديهما في التجارب والأبحاث فلا يعلمان اليوم أن الدنيا بعدهما قد ألغت بوصلة الأرض وتباعد المسافات بفضل إضافة الفرد فيهما لحياة الأمم والشعوب.
كم هم الأفراد الذين كانوا لشعوبهم وجهاً ثقافياً وقصة اقتصادية؟ بل إن السؤال: لماذا تغيب هذه النماذج في عالمنا العربي وخريطتنا الإسلامية؟ والجواب أن هذه النماذج تغيب لأننا بيئة جافة منفِّرة واجتماع لا يسمح للفرد أن يكون فكرة خلاقة مستقلة. نحن ثقافة خطاب صوتي قروسطي لأن تركيبة - الرأس - البيولوجية في عمقها التشريحي مجرد كرة من دورين: الفك الأعلى حتى قشرة الجمجمة مجرد كرة فراغية فيما بين الفكين آلة مشتغلة. هؤلاء الأفراد كانوا إضافة في حياة الشعوب لأن هذه الشعوب في الأصل عاشت دورة حياتها الفطرية الطبيعية التي تبني وتبتكر وتؤسس للجامعات ومراكز الأبحاث ومراكز التميز. الأفراد نسيج من الشعوب، والأخيرة هي الشجرة التي تنبت منها الثمرة.
أخيراً، أنا لا أكتب ترويجاً لأفراد بل دهشة من فكرة.