[align=center](( الجزء الثاني ))
وحين صعدنا السطح واكتملت أعداد المسافرين وتأهبت العبارة للسفر والمضي
كنت أشاهد قرص الشمس وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وقد أخذ يغرغر بشعاع ذهبي خافت
هو الأخير في يومه والأخير لجموع غفيره ذهبت أدراج المياه .
ولأن الإجهاد والإعياء بلغ فينا الثمالة والغاية .. أخذ النوم يغزو أعيننا بشراسة وإلحاح لا يقاوم
لذا .. لم نتأخر ولم نتريث في أداء صلاة المغرب والعشاء جمعاً وقصراً فوق سطح السفينة .
وبعدها أخذنا نتلصص ونبحث عن مكان خافت الإضاءة قليل التواجد .. ننام فيه طيلة وقت الرحلة .. ولكن أعيانا البحث وتعذرت الأماكن
فالعبارة ممتلئة بأعداد هائلة من المسافرين .. والجميع يبحث عن النوم والراحة .. فلسنا وحدنا في هذه البغية الملحة
وحين أصابنا اليأس .. أصبح افتراش أرضية السفينة هو الخيار الوحيد .. فبحت لصديقي عبدالإله هذه الرغبة فلم يترد أو يماري في شئ
بل وافق سريعاً .. وهو يقول بصوت ثقيل وعين مجهده .. ( أي مكان .. أهم نشئ ننام )
فسارعنا إلى زاوية السطح .. وحين أردنا التمدد على الأرض .. لاح لي مقعد فارغ تماماً .. يتجاوز طوله المتر بقليل
فكان مغرياً للتمدد والنوم فوق سياجه .. لكن لا يتسع لأكثر من شخص واحد
ولأن صديقي عبد الإله هو الأكثر مني إرهاقاً وسهراً .. فعيناه لم يغشاهما النوم طيلة رحلة الباص الطويلة
كان من البداهة أن يصبح المقعد من نصيبه .. أمّا أنا فقد افترشت الأرض قريباً من المقعد .. ولم نلبث غير لحظات قليلة
حتى ذهب صديقي في سبات عميق ونومه مفرطة في استغراقها .. وقبل أن أضع رأسي للنوم .. نظرت إلى جهة الميناء
فكنت أشاهد ميناء ضبا تلوح مصابيحه بشكل خافت جداً .. ولم أنتظر حتى تتلاشى وتغيب
بل سارعت إلى وضع رأسي فوق حقيبتي الصغيرة .. وذهبت أنا الآخر في سبات عميق .
وبعد مضي ما يقارب الساعة أو تزيد قليلاً .. تنبهت مذعورا على صوت جلبه وعبارات صاخبة .. فرفعت رأسي ثم نهضت على قدمي
وسارعت مذعوراً أكتشف الأمر وأبحث في السبب .. فلم أجد جواباً غير اللغط والتذمر والخوف بين جموع الأخوان المصريين
و الذي يكتظ بهم سطح السفينة .. وبين زحمة الخوف والأعين المذعورة .. أخبرني أحدهم أن السفينة تحترق في مقدمتها .
ويخشى أن تحترق المحركات بالكامل .. فأصبحت أشاركهم شعور الخوف والقلق .. ولكن لم يدر بخلدي لحظة واحدة
أن أشاركهم شعور الموت وغرق السفينة .. فهو مستبعد جداً في هاجسي
وفي هذه الأثناء كنت أشتم رائحة احتراق ( أشبه ما يكون باحتراق قطعة بلاستيك ) .. وكانت رائحتها قوية بعض الشئ
وهذا ما جعلني أفكر بإيقاظ عبدالإله من رقدته وسباته . فأنا أدرك تماماً معاناته الشديدة من مرض الربو المزن ..
فأحببت أن يغير من مكانه أو يفعل شيئاً في طريقة نومه .. وفي لحظات التردد بين إيقاظه أو تركه .. أخذ يتردد صوت بين جموع المسافرين
( لقد تمت السيطرة على الحريق )
فتنفست الصعداء وحمدت الله أني لم استعجل في إيقاظه .. وحين شعرت في الأمن وطمأنينة الوضع .. عاودتني رغبة النوم الملحة .
فاضطجعت من جديد وأسلمت نفسي للنوم .. ولم ألبث غير قليل حتى أصبحت أغط في النوم ..
ولكن بعد مضي ساعة تقريباً .. تنبهت من جديد على أصوات صاخبة تفوق كثيراً ما سمعته في يقظتي الأولى ..
حتى رائحة الاحتراق أصبحت شديدة جداً .. وحين اقتربت من الجموع الخائفة .. أدركت أن الوضع قد تأزم كثيراً ..
والسيطرة المزعومة ليست غير مطية التهدئة .
وحين أدركت أن رائحة الاحتراق أصبحت لا تحتمل ومصير السفينة قد يتأزم أكثر فأكثر.. سارعت إلى صديقي النائم
وهززته في جانبه وأنا أصيح بصوت متسارع وصارخ .. ( عبدالإله .. عبد الإله .. أبسرعه قم .. يالله قم )
فنهض صديقي مذعوراً ... وأخذ ينظر في عيني مشدوهاً ..وهو يتساءل بهلع : ( وش فيك ؟؟ )
فأوجزت لصدقي ما أدركه من مشكله .. وأخبرته أن مصير السفينة لا يمكن التنبؤ بأحداثه .. فالمولدات تحترق بشدة
والرائحة تفضح التكتم وتقضي على أسلوب التهدئة العقيم .
ولم نجد في تلك اللحظات الخائفة .. غير أن نقترب من بعضنا البعض وننتظر بقلق ما تتجلى عنه اللحظات القادمة ..
وغير هذا التصرف .. ليس في وسعنا فعل شئ
وبعد مضي قرابة النصف ساعة .. أخذت المشكلة تأخذ أبعاداً خطيرة جداً
فقد أخذت العبارة الكبيرة تترنح وتميل إلى جهة اليمين.. حتى سمعنا صوت صارخ يطلب من جميع الركاب أن يتجهوا بثقلهم إلى جهة اليسار
حتى يحدث التوازن وتقف العبارة عن ميلانها جهة اليمين .. فسارعت جموع المسافرين تلبي هذه الرغبة وهي تسأل الله الرحمة والشفقة .
وحين حدث تكتل الجموع المسافرة جهة اليمين .. شابني اعتقاد .. أو حدث هذا حقيقة .. لست أدري ..
أن العبارة استعادت توازنها من جديد .. فتنفست الصعداء وشددت على كف صديقي .. وأنا اصرخ بفرح طفولي وعيناي قد اتسعتا عن آخرهما
( عبدالإلة .. تعدلت العبارة .. إلاّ تعدلت .. والله تعدلت )
كنت اصرخ بهذه العبارة .. وأنا أرى الجموع الخائفة تتشبث بشدة في جانب العبارة الأيسر
بل كنت ألحظ أعينهم المذعورة وأفواههم الفاغرة بأنوار خافته تشوبها الظلمة قليلاً
فالعبارة رغم احتراقها لم تزل تحتفظ بمولدات الكهرباء سليمة تماماً دون أن تشوبها شائبة الضعف .. لكن ماعدا العبارة فالظلمة حالكة جداً
فنحن في أواخر الشهر الهجري ..فالبحر من تحتنا لسنا ندرك منه شيئاً غير ظلمته الشديدة وأصوات أمواجه المتكسرة على جوانب العبارة .
فالموج في تلك الليلة ثائر جداً وأصواته مهولة ومرعبة
وفي هذه الأثناء .. اختفى صديقي عبدالإله قليلاً .. ثم أتى وهو يرتدي طوق نجاة .. ثم حثني بالمسارعة لأبحث أنا الآخر عن طوق نجاه ..
فتذكرت سريعاً .. أن المقاعد التي فوق سطح سفينة .. كتب عليها ( أنزع الكرسي لتجد طوق النجاة ) ... أو قريباً من هذا المعني .
فسارعت إلى مكانها .. فوجدت أن المقاعد قد تطايرت .. وأطوق قد أخذت جميعها .. وقبل أن يقتلني اليأس
عثرت عل طوق نجاة مرمي على الأرض .. فسارعت إلى أخذه ثم سارعت إلى ارتدائه .
وحين أصبحت بجانب صديقي .. حدثت المفاجأة المريعة
لقد مالت العبارة إلى جهة اليمين بشكل حاد وارتفعت مقدمتها قليلاً فوق سطح البحر أمّا مؤخرتها فقد غاصت قليلاً في مياه البحر
وأصبحت الأجساد تنزلق بفعل الميلان ..ثم ترتطم بحاجز العبارة الأيمن .. والنساء والأطفال والضعفاء هم أكثر من يعجز عن التماسك
والتعلق بحاجز العبارة الأيسر.. فكنت أنا وصديقي عبدالإله من القلة الذين استطاعوا التشبث بحاجز العبارة الأيسر حتى النهاية .
ثم زادت درجة الميلان إلى جهة اليمين واقترب سطح السفينة إلى سطح البحر
أمَا جهة اليسار فقد أصبحت شاهقة الارتفاع والعلو .. حتى أصبحت أجسادنا تتدلى إلى الأسفل
ولكن صبرنا وتحملنا ألم التشبث والتعلق بحاجز العبارة الأيسر.. حتى كلّت أذرعنا وأعيانا الجهد والتحمل
ولكن لم نشأ القفز وركوب أهوال البحر حتى تقترب العبارة في غرقها من أجسادنا المتدلية .
وفي هذه اللحظات العصيبة أخذت تتسارع دقات قلبي وأنفاسي اللاهثة لم استطع كبتها أوتهدئتها
ولكن خوفي من الغرق والموت واسماك القرش وأهوال البحر .. جعلني أخرس فلا انبس ببنت شفه .
حتى كنت أختلس النظر مشدوهاً إلى صديقي وأنا غير مصدق لما يجري فكأني أعيش حلماً لا حقيقة .. ولم يكن صديقي بأحسن مني حالاً
فكلانا يعيش اللحظات الأخيرة .. قبل أن تغتالنا ظلمة البحر ووحشته.. وتتقاذفنا أمواجه ولججه .
فاصل .. ثم نواصل
عفواً .. لم يتبقى غير الجزء الثالث والأخير ( قريباً جداً )
[/align]