[frame="7 10"]قال العلماء العاملون رضي الله عنهم الهجرة لمن أراد أن يهاجر ثلاث هجرات: { هجرة بأمر الله، وهجرة بفضل الله، وهجرة بتوفيق الله }
أما الهجرة بأمر الله فهى أن يُنفذ كل ما أمره به مولاه، ولكى يُنفذ ما أمره به مولاه لابد أن يهجر ما نهى عنه مولاه، فلابد أن يهجر المعاصى حتى يفعل الطاعات، ويهجر الحرام حتى يحصل على الحلال، ويهجر الذنوب والآثام حتى يُطيع الملك العلام، فهذه الهجرة بأمر الله أى فعل ما يأمره به مولاه بعد أن يترك ما نهى عنه الله، وهذه الهجرة الآية الجامعة لها فى كتاب الله هى قول الله فى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} الحشر7
والمصيبة التى وقع فيها كثير من المسلمين فى هذا الزمان أنهم جمعوا بين الإثنين، فكثير منهم يظن أن المطلوب منه لإرضاء ربه القيام بالعبادات، أما المعاملات فيمشى فيها على حسب هواه، وإن كان يعلم علم اليقين أنه يخالف شرع الله
فمثلاً التاجر قد يذهب إلى الحج كل عام، ويذهب إلى العمرة مرات فى العام، لكن فى تجارته لا مانع عنده من أن يغش فى الكيل أو الوزن أو يغش فى الثمن أو يغش فى الصنف، فيرى أنه ليس عليه شئ فى هذه الأشياء، هذه الثنائية هل يوافق عليها الدين؟ لا، فالشرط الأول أن يهجر ما نهى عنه الله، فقد نهى الله عن التطفيف فيجب ألا يُطفف فى كيل ولا ميزان لأن الله قال: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} المطففين1
نهى الله عن الغش على لسان حَبيبه ومُصطفاه: { مَنْ غَشَّنا فَلَيسَ مِنَّا }{1}
نهى عن أى غش إن كان فى الصنف أو السلعة أو غير ذلك، فمشاكلنا فى مجتمعنا سببها التفريق بين المعاملات والعبادات، مع أن الدين كله واحد، ولابد للإنسان أن يأخذه بجملته، فلا يجوز له أن يعمل بشئ ويترك أشياء ويظن أنه على صواب، لأنه نَهْى عن كل ما نهى عنه الله، ثم بعد ذلك قيام بكل ما أمر به الله.
كثير من الناس يحرص على الفرائض، ولبيان مدى حرصه على الفرائض فى وقت عمله يترك العمل قبل الظهر بوقت كبير ويذهب للمسجد ليستعد لصلاة الظهر ويظن أنه أدى العبادة كما ينبغى، عبادتك فى عملك ومكتبك، وإذا كان عملك يتعلق بخدمة الجماهير فتكون الصلاة بعد نهاية العمل إلا إذا وجدت فرصة وتعود سريعاً، وإذا كان العمل لا يتعلق بالجماهير فاذهب للصلاة أثناء إقامة الصلاة، والذى يُصلى بهم يراعى ذلك فلا يطيل فى الصلاة، لكن المتنطعين يظنون أنهم على صواب، وبعضهم يقوم بعمل درس بعد صلاة الظهر، أين العمل؟
ويسولون ذلك على أنه من الدين، وهذه هى الطامة الكبرى التى أساءت إلى دين الإسلام فى نظر غير المسلمين لأنهم رأوا أن ما يصنعه المتنطعين – لأن صوتهم عالى – هو هذا الدين، مع أنهم بعيدين عن نهج الدين بالكلية، الدين: { أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقَ حَقَّهُ }{2}
حق العمل لا أفرط فيه، وحق الله محفوظ.
فنحن نحتاج فى هذه الأيام الكريمة أن نبين لأنفسنا ونمشى على هذا المنهاج، وإن كان فى نظر كثير من المتنطعين شاذ، لكن هذا هو المنهج الحق الذى ارتضاه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وهو أن نهجر المعاصى بالكلية ثم نبدأ العبادات لرب البرية عز وجل، ولو أن الإنسان انتهى عن المعاصى ثم لم يقم إلا بالفرائض فقط أفلح كما قال صلى الله عليه وسلم ودخل الجنة لأنه ليس عليه شئ.
فالأساس أن يحفظ الإنسان نفسه من الذنوب والآثام ثم يطيع الملك الحق عز وجل رغبة فى الهجرة إلى الطاعات والقربات المبثوثة فى كتاب الله والتى بينها بفعله وقوله وحاله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يحتاج المسلمون جميعهم فى هذا الزمان إلى هذه الهجرة
فمثلاً نجد الفلاح يذهب ليصلى الفجر فى وقته، وعندما يؤذن الظهر يترك عمله ويسارع للصلاة، ثم بعد ذلك يريد أن يكسب سريعاً فيضع فى زراعته الهرمونات والكيماويات والمبيدات المحظورات ليستعجل الأرزاق، ويظن أن هذا شئ والعبادة شئ، لابد من هجر هذا للغش أولاً، ثم بعد ذلك لو لم تصلى إلا الفرائض فى وقتها سيكفيك هذا، وقس على ذلك بقية الأمور
فتلك مصيبة حلت بمجتمعنا لأننا تأثرنا فيه بالمجتمعات الأجنبية، وأخذنا نظرية المنفعة وإن كنا لا نشعر بها وجعلناها هى أساس حياتنا، إذا كانت المنفعة فى ميزان المعاملات لا نوزنها بميزان الحلال والحرام، قال صلى الله عليه وسلم: { لا تَكُونُوا إِمَّعةً تَقُولُونَ إِن أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وإِنْ أسَاءُوا فَلاَ تَظْلمُوا }{3}
الهجرة الأولى التى هجرها كل أصحاب رسول الله سواء فى المدينة أو خارج المدينة هى هجرة المعاصى بالكلية، وهجروا المحرمات الواردة كلها جملة واحدة، والمعاصى التى لا يعتبرها المسلمون الآن معاصى ويتسلون بآدائها فهذه مصيبة المصائب، مَن فى المسلمين الآن يعُد الكذب معصية؟
الأغلبية يعتبرونه فهلوة وشطارة، ومَن مِن المسلمين الآن يعتبر أن الغيبة والنميمة وقيعة ينبغى عليه الإقلاع عنها؟ قلَّ وندر، تسالى الناس فى هذا الزمان فى القيل والقال، فلابد من هجرة كل ذلك، وننفذ ما أمرنا به الله، وحتى ندخل فى قوله صلى الله عليه وسلم: {وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنه.
{1} صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهم
{2} رواه ابن حبان والبيهقي عن أبي جحيفة عن أبيه
{3} سنن الترمذى عن حذيفة رضى الله عنهما
[/frame]