_ بيتنا الطيني القديم _
قادني إليه الحنينُ لذكريات سنين , فقصدته يحدوني الشوق لرؤيته , وتذكرّ ماضياً قريباً عشته فيه مع أهلي وإخوتي , فلما وصلت إليه وجدته يشكو الوحدة والهجران , فلا سكان ولا جيران , فتحت بابه ودلفت إلى داخله , فتمثلتْ أمامي صور والديَّ وإخوتي وأخواتي وهم يملؤون كل متر فيه حركة ودبيباً , وهيبة وضجيجاً , وكأني أسمع صوت والدي يحثنا على الصلاة بعد سماع الأذان : صلوّا . صلوّا لا تفوتكم صلاة الجماعة . وقادتني رائحة بقايا المسك والحناء إلى غرفة أمي , فوقفت ببابها واجماً , وسرحت بخيالي هائماً .
وأكملت المسير إلى صحن البيت فانهالت على مخيلتي أحلى الذكريات , لأجمل الأمسيات , فقد كنا نتناول فيه الغداء والعشاء , ونشرب القهوة والشاي , وقفت طويلاً بباب المجلس (غرفة استقبال الضيوف ) متأملاً , فما أجمل زخارفاً ونقوشاً تزين جدرانه التي زادها تعاقب الليالي والأيام عليها قوة وصلابة .
وصعدت الدرج إلى الدور الأول من البيت حيث غرفات النوم والراحة , لقد صارت أثراً بعد عين , وبدأت اسأل نفسي : أين ؟ وأين ؟ , فلما لم يجبني أحدٌ , نزلت مسرعاً !
غادرنا ذلك المنزل الطيني الجميل قبل عقدين ونيفّ من الزمن , غادرناه إلى مساكن وفلل , فاستوطنته من بعدنا العصافير والقطط (في مصادفة غريبة) فالعصافير اتخذت من فرع نخلته الوحيدة وكَناتٍ تبني بها أعشاشها , وراحت تشقشق وتزقزق وتتزاوج ثم تبيض بيضاً صغيراً , وأما القطط فقد اتخذت من دهاليزه ومخابئه ملاذاً آمناً تعيش فيه , وتنصب الأفخاخ لفرائسها المحببة إليها من (العصافير) فتنال منها ماشاء الله لها أن تنال .
انهيت الزيارة وخرجت من البيت الطيني القديم واقفلت بابه وقد عادت بي الذكريات إلى سنين ماضيات , ثم قفلت عائداً إلى بيتي وأنا أردد هذه الأبيات :
أمضيتُ فيه طفولتي وشبابي *** والوالدان يحققان رغابي
لم أنس أعوام الصفاء قضيتها *** ما بين إخوان هنا وصحابِ
قد زرته والذكريات تحثني *** وخرجت منه مناجياً أحبابي
إبراهيم بن سليمان الوشمي
بريدة