ظاهرة الاستخفاف بالإنسان. . إلى متى؟!
د. مسفر القحطاني 28/9/1429
أعتقد أن ظاهرة الاستخفاف بالناس من أشد صور التحقير البشري للإنسان؛
فحتى إهانة الحيوان مذمومة، وفعلها من أقبح الأفعال حتى لو كان المراد هو الانتفاع بلحمه للأكل عند الذبح؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام :"
إن الله كتب الإحسان في كل شيء.. فإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليُرِح ذبيحته".
فإذا كان هذا هو قانون التعامل مع الحيوان البهيمي فالإنسان من باب الأولى والأحرى أحق بذلك التكريم في حياته؛ فقد سخّر الله له كل شيء في الأرض والسماوات، وأخبر الله تعالى أن الله كرّم الإنسان على كل الخلق في قوله تعالى:
( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ).[الإسراء:70].
وهذه المنزلة من التكريم والتفضيل يتساوى فيها مَن يحمل الصفة الإنسانية بغض النظر عن كل التنوعات البشرية والاختلافات الخلقية, ولكنْ في حياتنا المادية واعتبارات عصرنا الاستهلاكي أصبح التكريم للإنسان وفق كم يساوي كسلعة سوقية؟! وكم يحمل من ألقاب وظيفية؟! وكم يبلغ من منزلة سلطوية؟! وبالتالي فنحن أمام الشريحة الكبرى التي لا تملك الثروات أو المناصب, والتي يتم التعامل معها وفق قانونية الاستخفاف المذِّل الذي يُنْمي عن طبقيّة استبدادية غير مكشوفة للعيان, ولكنها تتخفى بمكرٍ في التصرفات والأفعال, نلحظها بقوة في تعامل المدير مع مرؤوسيه، والموظف مع مراجعيه، والضابط مع أفراده أصحاب الشرائط الحزينة, والمعلم أحياناً مع تلاميذه، والآباء مع زوجاتهم وأطفالهم, بل والمثقف مع قرّائه، والمفكّر مع قيمه ومبادئه!! إنها صور عديدة من الاستخفاف الممنهج لقتل الكرامة والحيوية الذاتية لدى شخص الإنسان. تأتي بصورة منظّمة وهادئة تنتهي بالفرد المكبوت إلى القتل الرحيم, ليعيش بعدها إنساناً ذليلاً مُستضعَفاً سهل الانقياد، وعجينة هشّة للتأثير والطبع وفق ما يريده أصحاب النفوذ الإعلامي والاستهلاكي والفكري.
أما السياسي البسيط فقد يفرحه أن يكون أفراد مجتمعه منقادين مخفوضي الرؤوس ليسمعوا ويطيعوا دون تعليل أو مناقشة, ولكن على المدى البعيد سيتحوّلون نحو الأقوى أثراً ونفوذاً على عقولهم والمدغدغ لعواطفهم والمشبع لغرائزهم، وربما تكون وجهتهم مخالفة لسياسة بلدهم وسلطانهم, ثم إن سياسة الاستخفاف تولّد كبتاً فكرياً يتحوّل نحو السراديب والغرف المعتمة، وربما ينشأ في هذا المناخ الموبوء أفكار متطرفة أو انتماءات شاذة عن الدين والمجتمع, وقد يتشكل في أذهانهم نوع من القرف الوجودي والتذمر الصامت من كل شيء حتى لو كان حسناً, والإحساس بالنبذ يشكّل في أي مجتمع خلايا سرطانية تقتل ببطء مناعة الجسم وقوته في البقاء والمواجهة, وهذه السياسة كانت فكرة قديمة مارسها فرعون على قومه, كما حكى الله تعالى عنه في قوله: ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ). قال القرطبي في معاني الاستخفاف: "فاستخف قومه وقهرهم حتى اتبعوه. يُقال استخفّه خلاف استثقله، واستخفّ به أهانه" وقال ابن الأعرابي: المعنى فاستجهل قومه "فأطاعوه" لخفة أحلامهم وقلة عقولهم. والمعاني تدور هنا على أن استخفاف فرعون بقومه جعلهم في مستوى أن يجعلوه إلهاً مع كل مظاهر النقص والخور الإنساني, وسخّرهم في أقبح صور الاستعباد البشري، كما في بناء الأهرام كشاهد على هذا الاستخفاف العظيم, والنهاية أنهم لم يحفلوا به، وارتدّ عنه أكثر جنوده تبعاً وانتماءً، وهم السحرة, وزالت تلك الدول بزوال مصدر القهر فيها. لذا يقول ابن حزم في معرض حديثه عن مساوئ الاستخفاف: "فإذا استخففْتَ بهم – أي بالخلق-بغير حق استخفّوا بك بحق؛ لأن الله تعالى يقول:
( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ).
فتولد على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك، بل على الحقيقة مع مقت الله عز وجل وطمس ما فيك من فضيلة".
ويبقى قانون الاستخفاف مصدر قلق دائم وتخوّف من تحوّلات أو نقمة الُمستخَفّ بهم, أو على العكس ضعفهم وقلة حيلتهم عندما يُلقون في وجه الأعداء، أو يُطلب منهم الصمود في وقت الشدة والبلاء.
إن أخطر ما في ظاهرة الاستخفاف بالإنسان أنها تغتال عقله وفكره، وبالتالي حياته المثلى التي يسعى لتحقيقها في دنياه، ويحلم بها في جميع أمانيه, حينها ما الفائدة من العيش وقد ماتت تلك الآمال في النفوس؟! وما صور المنتحرين أو المدمنين أو المرضى النفسيين في مجتمعاتنا إلاّ انعكاس لاستخفاف الآخرين بهم، وتحطيمهم تدريجياً، وتحويلهم إلى تراب متحرك يتطاير مع كل رياح العولمة التي تهب على أوديتنا كل يوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حركتات بنوتات نعومين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبحان الله وبحمده
....عدد خلقه ...ورضا نفسه.... وزنة عرشه ....ومداد كلماته....
أستغفرالله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم واتوب اليه.....