تقولين والدك قد مات , فما لك بعد نعي الناعي إلا الحزن والألم كلما رأيت آباء الآخرين , وكلما سمعت من يذكر أباه عندك , ومن تذكر أباها عندك , إذ تروحين وتغدين بدموع سخينة , وبدموع وارفات , وبكاء لا ينقطع في غرفتك , وفي زوايا بيتك , وفي كل مكان تحلين فيه , فليس بعد رحيل الأب رحيل يماثله .
أي شيء أثقل على الإنسان من أن يشاهد أباه ومن كان له السبب بعد الله في إخراجه إلى هذه الدينا وهو يرحل رحيل المفارق الذي لن يعود إلى مودعيه , لقد رحل هنالك بعيدًا حيث لا تجدينه , فإذا أنتِ باكية عليه ومكلومة , وكسيرة الحال وكاسفة الخاطر , فتلك صورته منطبعة في ذاكرتك , وتلك أحاديثه لا تفارق مسمعك , وذلك صوته ونبرته لا تكاد تنمحي من حياتك .
إنك تذكرين مكان جلوسه , وتذكرين ابتسامته , وتذكرين خوفه عليك , وتذكرين حنانًا منه طالما غمرك به , وطالما احتواك منه فلا ترتوين ولا تصدين , فيا لك من حزينة مصادقة لتلك الدمعات تترى بلا انقطاع , لقد رحل أبوك فما أنت فاعلة ؟ لقد راح مودعًا فما أنت منتظرة ؟ لقد اختلف وداعه عن وداع الآخرين أنه كان وداع الفجأة , فلم يسلم , ولم يوصِ , ولم يقل نصيحته المعتادة خوفًا عليك .
لقد صادفتك سهام المنون بلا سابق موعد , فاختطفته منك دون أن تشعرين , فرحت تبكين تارة , وتستعبرين الدموع تارة أخرى , وإذا من حولك لا يقدرون أن يشعروا بما شعرت به , فلا تلبثين كثيرًا حتى تقولين : فقدت أبي , فما بال هؤلاء لا يبكون كما أبكي ؟ إنهم لم يشعروا كما أشعر الآن , ولم يصابوا بمصاب جلل كما أنا مصابة اليوم به , فما هذه الدنيا لا تعير موت أبي اهتمامًا ؟
رحل والدك فلم تبكِ عليه الدنيا , ورحل والدك ولم يتبدل الليل والنهار , ولم تتبدل المدن وشوارعها , ولم تقف الناس كل الناس باكية عليه , فإذا أنت متسائلة , ما لهم لا يبكون كما أبكي ؟ تحسبين الدنيا بمن فيها عادلة , منصفة , وإذا هي كالذئب يخطف فريسته غير عابئ للحزن الذي يخلفه خطفه وافتراسه .
لك الله فقد كنت تأملين من الدنيا أن تشاطرك حزنك فتتبدل الأرض غير الأرض , والناس غير الناس , وإذا هي باقية على طبيعتها , وكأن موت أبيك لم يحرك ساكنًا فيها . . . قال أبو الحسن التهامي :
حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري = = = ما هَذِهِ الدُنيا بِدار قَرار
بَينا يَرى الإِنسان فيها مُخبِراً = == حَتّى يُرى خَبَراً مِنَ الأَخبارِ
طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها = = = صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ
والله نسأل أن يجبر الله مصيبتك , وأن يغفر لميتك , وأن يلهمك وأهلك الصبر والسلوان , آميـــــــــــن .