الوقفة التاسعة عشرة : بعض الوقفات في آخر سورة التوبة ( التصنيف , والهجرة , والنفس والمال ) .
هذه الوقفة مكونة من ثلاث وقفات موجزة :
الوقفة الأولى : التصنيف :
يأخذ كثير من الكتاب والمثقفين على أهل العلم والإسلاميين شغفهم بالتصنيف , واهتمامهم بالتفريق بين الناس حسب توجههم الأيديولوجي ( كما يقولون ) , بل يشنعون التصنيفات القديمة حسب التوجه الفقهي كالحنفي والشافعي .. والسني والمعتزلي .. وقال بعض الكتاب : إن التصنيف ليس له أصل في الشرع , فالجميع مسلمون , وهم سواسية .
وهذا الكلام فيه شيء من الصحة , فالمسلمون سواسية في العبادة , وأكرمهم عند الله أتقاهم , ولكن الشارع جاء ببعض التصنيفات التي لا تنقص من قدر المسلمين , ولا تضر في التعامل مع المسلمين بعضهم ببعض .
قال الله تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100) سورة التوبة .
فصنف الله تعالى الصحابة إلى صنفين : السابقون الأولون , وهذا صريح الآية , والصنف الآخر : المسلمون المتأخرون من الصحابة , وهذا مفهوم الآية , وجاء مصرحاً به في موضعٍ آخر : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (10) سورة الحديد .
فجعل الصحابة قسمين : مُسْلِمَةُ ما قَبْلَ الفَتْح , ومُسْلِمَةُ ما بعد الفتح .
والصنف الأول : السابقون الأولون , جعلهم الله فريقين : المهاجرون , والأنصار , ويفهم من سياق القرآن أن المهاجرين أفضل من الأنصار ؛ لأنه قدم المهاجرين على الأنصار في كل موضع ورد فيه الصنفانِ معاً , ومنه هذه الآية , وقول الله تعالى : {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (117) سورة التوبة , وقوله تعالى : {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (8) سورة الحشر {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر , والذين تبوؤا الدار هم الأنصار .
إذن , فالتصنيف موجود في صدر الإسلام , ولا غضاضة من وجوده شريطة ألا يستلزم التصنيف عداواتٍ وبغضاء , وتحزبات مقيتة , إلا ما جاء الشارع بإثباته كالمنافقين والكفار والمشركين واليهود والنصارى والمجوس ونحوهم .
الوقفة الثانية : التقويم الهجري :
اختلف الصحابة في موضوع التقويم الهجري , متى يبدأ , وانتهى اختلافهم إلى اتفاق على هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم فجعلوه أول عام للمسلمين , كما هو معروف في مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - , وقد تأملت قول الله تعالى : {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (108) سورة التوبة , فوجدت الآية تتحدث عن مسجد قباء كما هو معروف عن المفسرين , وهو المسجد الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم أول الهجرة حين قدم المدينة , وجاء التعبير هنا ( أسس على التقوى من أول يوم ) , فأول يوم هو وقت التأسيس , وكأن الله تعالى يشير إلى أن يوم في تاريخ الأمة الإسلامية هو يوم الهجرة العظيم , و ( مِنْ ) الجارّة هنا تكون بمعنى ( في ) أي لمسجد أسس على التقوى في أول يوم , وقد رجح ذلك الرضي في شرح الكافية 4 / 264 , وأراه قولاً وجيهاً كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا } (9) سورة الجمعة , أي : في يوم الجمعة .
والله تعالى أعلم .
الوقفة الثالثة : النفس والمال :
جميع آيات القرآن التي وردت فيها الأموال والأنفس في موضوع واحد , قُدِّمَتْ فيها الأموال على الأنفس كما قال تعالى : {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } (95) سورة النساء , وقوله تعالى : {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } (81) سورة التوبة , وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } (72) سورة الأنفال , وقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (15) سورة الحجرات , إلا في موضعٍ واحد جاء تقديم الأنفس على الأموال , وهي قوله تعالى : {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } (111) سورة التوبة , ولعل السبب في ذلك والله أعلم أن السياق سياق معاوضة وشراء بين الله تعالى والمؤمنين , ( إن الله اشترى ) فقَدَّمَ الله تعالى أغلى الصنفين , وهو الأنفس قطعاً , والجود بالنفس أقصى غاية الجود .
نسأل الله تعالى التقى والهدى , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
19 / 9 / 1431 هـ