الجواب :
مصطلح "العلمانية" هو الترجمة التي شاعت بمصر والشرق العربي للكلمة الإنجليزية secularism بمعنى الدنيوي، والواقعي، والعالمي .. ذلك لأن العلمانية هي نزعة فلسفية وفكرية وسياسية واجتماعية ترى العالم مكتفيًا بذاته، تدبره الأسباب الذاتية المودعة فيه .. فالعالم والواقع والدنيا هي مرجعية التدبير للاجتماع الإنساني والدولة والحياة، ومن ثم فإن الاجتماع والحياة والدولة ليست في حاجة إلى مدبر من خارج هذا العالم من وراء هذه الطبيعة.. والإنسان مكتف بذاته، يدبر شؤونه ويبدع قيمه ونظمه بواسطة العقل والتجربة، وليس في حاجة إلى شريعة سماوية تحكم هذا التدبير..
فالعلمانية - لذلك- تضبط بفتح العين، لأنها نسبة إلى العالم، أي الدنيا والواقع الدنيوي، فهي مصدر غير قياسي، إذ القياسي فيها هو "العالمانية" -نسبة إلى العالم- وهناك في المغرب العربي من يترجمها "بالدنيوية".
ولقد نشأت العلمانية - بأوربا- في سياق النهضة الحديثة، وكانت من أبرز معالم فلسفة التنوير الوضعي الغربي، التي جابه بها فلاسفة عصر الأنوار - في القرنين السابع عشر والثامن عشر- سلطة الكنيسة الكاثوليكية، بعد أن تجاوزت هذه الكنيسة الحدود التي رسمتها لها النصرانية، وهي خلاص الروح، ومملكة السماء، وترك ما لقيصر لقيصر، والاقتصار على ما لله .. لقد تجاوزت الكنيسة حدود رسالتها واختصاصاتها، فبعد عصور من سيادة نظرية "السيفين" THEORY OF THE TWO SOWRDS أي السيف الروحي - أو السلطة الدينية للكنيسة- والسيف الزمني - أي السلطة المدنية للدولة- جمعت الكنيسة السلطتين معًا، فضمت ما لقيصر إلى ما للكنيسة واللاهوت في ظل نظرية "السيف الواحد" THEORY OF ONE SOWRD.
وتحت حكم "البابوات- الأباطرة" أضفت الكنيسة قداسة الدين وثباته على المتغيرات الدنيوية والاجتماعية - أفكارًا وعلومًا ونظمًا- فرفضت وحرّمت وجرّمت كل ما لا وجود له في الأناجيل، وبذلك دخلت أوربا عصورها المظلمة، الأمر الذي استنفر رد الفعل العلماني، الذي حرر الدنيا من كل علاقة لها بالدين.. ففي مواجهة الكهنوت الكنسي الذي قدس الدنيا وثبتها، وجعل اللاهوت النصراني - وهو خالٍ من الفلسفات المنظِّمة للدولة والاجتماع- المرجع الوحيد للسياسة والعلم والدولة والاجتماع- في مواجهة هذا الفعل، جاء رد الفعل العلماني لينزع كل قداسة عن كل شؤون الدنيا، وليحرر العالم من سلطان الدين، وليعزل السماء عن الأرض، جاعلا العالم مكتفيا بذاته، والإنسان مكتفيا بذاته، والاجتماع والدولة والنظم والفلسفات محكومة بالعقل والتجربة، دونما تدخل من الدين.
ولقد ساعدت الملابسات التي نشأت فيها العلمانية، وكذلك المواريث الدينية والفلسفية الغربية على هزيمة الكنيسة، وتراجع اللاهوت النصراني أمام النزعة العلمانية.
فلقد كان التخلف الأوربي شاهدا على فشل الحكم الكنسي الكهنوتي.. وكان موقف النصرانية، الذي يدع ما لقيصر لقيصر، ويقف بالكنيسة ولاهوتها عند خلاص الروح ومملكة السماء سلاحًا بيد العلمانية ضد اغتصاب الكنيسة للسلطة الزمنية.. وكانت الفلسفة اليونانية - وخاصة عند أرسطو [384-322ق م]- والتي رأت الذات الإلهية مجرد خالق ومحرك أول للكون، ترك تدبيره ورعايته للأسباب المادية المودعة فيه -أي أن العالم مكلف بتدبير ذاته، لا يحتاج إلى مدبر مفارق له-.. كانت هذه الملابسات الواقعية والمواريث الدينية والفلسفية - في أوربا- عونًا لانتصار العلمانية على الكنيسة وسلطانها..
ولقد تميز في إطار فلاسفة العلمانية الأوربية تياران:
- تيار مادي ملحد طمح إلى تحرير الحياة - كل الحياة - من الإيمان الديني.. وكانت الماركسية أبرز إفرازات هذا التيار.
- أما التيار الثاني، فهو مؤمن بوجود خالق للكون والإنسان، لكنه يقف بنطاق عمل هذا الخالق عند مجرد الخلق، فيحرر الدولة والسياسة والاجتماع من سلطان الدين، مع بقاء الإيمان الديني علاقة خاصة وفردية بين الإنسان وبين الله.. ومن فلاسفة هذا التيار هوبز HOBBES [1588-1679م]، ولوك LOKE [1632-1716]، وليبينز LEIBNIZ [1646-1716]، وروسو ROUSSEAU [1712-1778]، وليسينج LESSING [1729-1871]..
ولقد ظلت العلمانية خصوصية غربية حتى القرن التاسع عشر، عندما جاءت إلى بلادنا الإسلامية في ركاب النفوذ الأجنبي والاستعمار الغربي الحديث.. وإذا كانت مصر - بحكم الموقع والسبق في التطور.. والاستقلال النسبي عن السلطان العثماني منذ ولاية محمد علي باشا [1148-1265هـ 1770-1849م] عليها- 1805م- قد مثلت طليعة الأقاليم الشرقية في التأثر بالفكر الأوربي - ومنه العلمانية - فلقد كان وفود العلمانية إليها نموذجًا لتسللها من أوربا إلى بلاد الشرق الإسلامي في ركاب النفوذ الأجنبي والاستعمار الحديث ..
فبعد تحطيم النظام الحمائي للصناعة والتجارة - الذي أقامه محمد علي باشا في مصر- زاد نفوذ التجار الأجانب، ونشأت على عهد الخديوي سعيد، في سنة 1272 هـ 1855م- أول محكمة تجارية مختلطة بين المصريين والأجانب-"مجلس تجار"- تسلل إليها القانون الوضعي الفرنسي.
ومع تزايد أعداد الجاليات الأجنبية ونفوذها- وخاصة بعد عقد اتفاقية حفر قناة السويس- نشأت "المحاكم القنصلية" لتقضي في المنازعات الناشئة بين المصريين وبين الأجانب، وقضاتها أجانب، ولغتها أجنبية، وقانونها وضعي علماني..
ولما زادت فوضى "القضاء القنصلي" - الذي توزعته سبع عشرة محكمة قنصلية- نظمت هذه الفوضى 1875م بإنشاء "المحاكم المختلطة"- وقضاتها أجانب، ولغتها فرنسية، وشريعتها هي قانون نابليون-..
وبعد أن كان هذا الاختراق - في المحاكم القنصلية.. ثم المختلطة- مقصورا على المنازعات التي يكون أحد طرفيها أجنبيًا حدث تعميم لبلوى هذا الاختراق العلماني في كل "القضاء الأهلي"- أي فيما عدا المحاكم الشرعية- التي انحصر اختصاصها في شئون الأسرة والأحوال الشخصية- وكان ذلك عقب استعمار الإنجليز لمصر، فيما سمي "بالإصلاح القضائي" 1883م.
ولقد استعان الغرب الاستعماري بنفر من أبناء الأقلية المارونية، الذين تربوا في مدارس الإرساليات التنصيرية بلبنان، في الدعوة إلى نموذجه الحضاري العلماني.. فكان فرح أنطون [1291-1340هـ 1874-1922م] أول دعاة العلمانية في بلادنا.. ثم تخلّق للعلمانية تيار فكري بلغ ذروته في كتاب الشيخ علي عبد الرازق [1305-1386هـ 1887-1966م] عن (الإسلام وأصول الحكم)- الذي صدر 1925م- مصورا الإسلام -كالنصرانية- دينا لا دولة، ورسالة لا حكمًا، يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله..
وفي مواجهة هذا التسلل العلماني إلى بلادنا، كانت مقاومة تيار الإحياء والتجديد الديني لعلمنة القانون والنهضة.. فلقد رأى هذا التيار الإحيائي التجديدي في العلمانية عدوانا على شمولية المنهاج الإسلامي- لأنه دين ودولة، وجامع بين ما لقيصر وما لله.. ولأن نطاق عمل الذات الإلهية - في التصور الإسلامي، ولا يقف عند مجرد الخلق، وإنما هو - سبحانه وتعالى - خالق ومدبر للعالم والاجتماع بواسطة الشرائع والرسالات {ألا له الخلق والأمر}[الأعراف:54]، {قل إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له} [الأنعام: 162، 163].
فكان رفاعة الطهطاوي [1216-1290هـ 1801-1873] أول من انتقد تسلل القانون التجاري لنابليون إلى المجالس التجارية في الموانئ التجارية، ودعا إلى تقنين فقه المعاملات الإسلامي "الوافي بتنظيم المنافع العمومية، لأن بحر الشريعة الغراء لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحياها".
ونهض القانوني البارز محمد قدري باشا [1237-1306هـ 1821-1888م] -وهو من تلامذة الطهطاوي- بتقنين فقه معاملات المذهب الحنفي، ليقدم البديل الإسلامي في القانون، كجزء من الرفض والمقاومة للقانون الوضعي العلماني.
ولقد عبر الإمام محمد عبده [1265-1323هـ 1849-1905م] - بلسان مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامي- عن ضرورة إسلامية النهضة، لأن الإسلام - على عكس النصرانية- منهاج شامل "فهو كمال للشخص، وألفة في البيت، ونظام للملك.. ولأن سبيل الدين لمريد الإصلاح في المسلمين سبيل لا مندوحة عنها..".
ومنذ ذلك التاريخ، ظل التدافع سجالا- في واقعنا الفكري والقانوني والسياسي- بين دعاة العلمنة لمشروعنا النهضوي وبين دعاة إسلامية هذا المشروع.
وعندما أعادت مصر صياغة قانونها المدني، الذي وضعه الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا [1343-1391هـ 1895-1971م] والذي طبق عقب إلغاء الامتيازات الأجنبية 1948م، زادت في هذا القانون مرجعية الشريعة الإسلامية عنها في سابقه الذي وضع 1883م..
ولما وضعت مصر دستورها الجديد 1971م نصت مادته الثانية على أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للقوانين .. وفي التعديل الذي تم الاستفتاء عليه لهذه المادة 1980م غدت الشريعة هي المصدر الرئيسي للقوانين، فانفتح بذلك الباب الدستوري أمام المشرع المصري لأسلمة القانون، ولإجلاء العلمانية عن المواقع التي احتلتها في بلادنا تحت نفوذ وحراب الاستعمار.
ــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
1.الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، دراسة وتحقيق: د.محمد عمارة. طبعة بيروت 1973.
2.الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، دراسة وتحقيق: د.محمد عمارة. طبعة دار الشروق. القاهرة 1993.
3.تقويم النيل، لأمين سامي باشا. طبعة القاهرة 1936م.
4.عصر إسماعيل، لعبد الرحمن الرافعي. طبعة القاهرة 1948.
5.العلمانية بين الغرب والإسلام، للدكتور محمد عمارة. طبعة دار الوفاء. القاهرة 1996.