الحمد لله الذي يحب من المؤمنين تصديق أخباره ، ويقينهم بتحقق وعده ونصره بظهور دينه على جميع الباطل وأنصاره ، هو الله الذي لا يخيب من آمن به على بصيرة وأخلص في طلب مرضاته ، وصدق في رفع دعواته وتزلف إليه بتضرعاته ، وهو الله الذي لا إله سواه معبودا بالحق ، هاديا بالصدق ، واعدا بالفرج ، وقادرا على إنجاز ما قطع على نفسه بالتمكين لمن جاهد فيه ، بالهداية والظهور على من عاند وجحد ، والصلاة والسلام على من صدّق مواعيد الله تعالى وقص منها مــا فصلت الأخبار عنه من غير ملل ولا كلل ، للحد الذي يخطب فيهم في ذلك من بعد صلاة الفجر حتى مغيب الشمس ، يفصل لهم ما يكون إلى قيام الساعة أما بعد:
قال تعالى ((فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا )وقوله سبحانه (( ويوم نبعث في كل أمـة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء )) الآيات القرآنية .
روى ابن سعد عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنهم ـ أكثر الصحابة ـ قالوا : كيف يموت وهو شهيد علينا ونحن شهداء على الناس فيموت ولم يظهر على الناس ؟ لا والله ما مات ولكن رفع كما رفع عيسى وليرجعن. وفي المغازي لأبي الأسود : أنّ أكثر الصحابة على أن رسول الله لم يمت . والذي دعاهم لهذا الاعتقاد الذي أنا عليه الآن وأدين به لله حقا ثابتا عليه الكتاب والسنة هي الآيات الصريحة على فهمهم العظيم .وهذا عمررضي الله عنه فيما روي عنه ينزع كما نزع أكثر الصحابة على أن قبض رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يعارض قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمـة وسطا لتكونوا شهـداء على الناس ويكـون الرسـول عليكم شهيدا ) فقال : فوالله إن كنت لأظن أن يبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، فإنـه للذي حملني على ما قلت.السيرة لإبن هشام (4/286).ومثله ما ورد في البخاري عنه في هذا الأمر العظيم قوله حين رد تصديق وفاة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم : ولكني قد كنت رجوت أن يعيش رسول الله حتى يكون آخرنا.رواه البخاري وابن سعد والبيهقي في الاعتقاد (348) .وأصرح شيء ورد عنهم في ذلك قول العباس على مرأى ومسمع أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام : قد مات ، أي قوم فادفنوا صاحبكم فإنه أكرم على الله من أن يميته إماتتين ، أيميت أحدكم إماتة ويميته إماتتين وهو أكرم على الله من ذلك ، فإن كان كما تقولون فليس بعزيز على الله أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء الله. وقول العباس هنا واعتراضه بنفي وقوع الإماتتين مثل ما كان يعتقد الصديق حين قال : لا يجمع الله عليك موتتين ، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. كله في معارضة سائر الصحابة الذين قالوا بعدم وفاته ليحقق الإشهاد .
ولم يتفطن جهال الأمة أن حقيقة النزاع هنا المهول على الإشهاد الذي كان أكثر الصحابة يرون تحققه مانعا لوفاته فضلا عن دفنه ، ولو كان من الجهل والخطأ ظن الإشهاد أنه يقع في الدنيا وأنه من المقطوع به أنه مما يقع يوم القيامة لصاح العباس والصديق بوجه القوم وردوا هذا الاعتقاد الجاهل .بل أقصى ما احتج به معارضتهم أنه لن يجتمع عليه موتتين ولم ينقل عنهم تسفيه هذا الاعتقاد وعده من الجهل ، بل إن العباس من أبرز معارضيهم تنزل لهم فقال : فإن كان كما تقولون فليس بعزيز على الله أن يبحث عنه التراب فيخرجـه إن شاء الله .
والصحابة رضي الله عنهم من أعلم الناس وأعقلهم وأكثرهم حكمة وفطنة في الشرع المنزل ، وما بدر منهم هذا بعاطفة صبيانية جاهلة ولا عقول كليلة حائرة ، بل أرادوا تبين أمر وحقيقته ، أشارت إليه ظواهر بعض النصوص الشرعية والأخبار الإلهية ، وأبى الله جل ثناؤه إلا أن يكون الأمر هذا خفيا عليهم عصيا فيهم إدراكه رحمة بهم وبالأمة تقديرا منه بالحكمة وتيسيرا بالعدل ، فما كان الأمر يعنيهم ولا تأويله بمغنيهم شرعا ، إذ لا تعلق لإرادتهم الشرعية به بأي حال من الأحوال ولذا أخفي عنهم التصريح به إلا من فلتات التورية القريبة من التصريح تارة والبعيدة تارة أخرى ، ومن وصل له من أصحابه إنمـا وصل له بالفهم لبعض ظواهر الآيات في كتاب الله تعالى ، ولا يكون إخفاء هذا الأمر عن هذه الأمة مع التصريح به عند غيرهم إلا لحكم جليلة الله تعالى قدرها في هذه الأمة ، منها أن التأويل لهذا الأمر متعلق بقدرها ومصيرها خلاف من سبقهم ولذا جاء فيهم التصريح به .
وعودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هي إلا آية يجريها الله عز وجل به إظهاراً لدينه كما وعد ونصرة لنبيه على جميع الكافرين والمشركين بجميع مللهم وذلك لكونه بعث للناس كافة وما من رسولٍ يكذبه قومه الذين أُرسل إليهم إلا وحلت بهم الماحقة وقد كذبت أكثر الملل رسول الله ولن تتخلف سنة من سبق بهم , فإن كل الأمم قومه عليه الصلاة والسلام وأن الله لم يتركهم هملاً . وإن غداً لناظره لقريب ، قال تعالى : ( قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين .ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين ) وهذا أصرح موضع في القرآن ينص على بعثه عليه الصلاة والسلام آخر الزمان , إذ أمره أن يخبرهم أنه منتظر معهم تحقق هذا الوعد الذي فيه نصر رسل الله , هكذا بصيغة الجمع وقوله : ( معكم من المنتظرين ).
قال ابن كثير رحمه الله في خبر الذي يقتله الدجال : ولهذا يقول ذلك المؤمن الذي يسلط عليه الدجال فيقتله ثم يحييه : ( أنت الأعور الكذاب الذي حدثنا عنه رسـول الله شفاها )
وهناك حديث آخر رواه أحمد وأبو داود والترمـذي عن أبي عبيدة رفعه : ( سيدركه من رآني وسمع كلامي )
ولو قرأنا سورة الدخان بتمعن وفهم عميق للزمنا رد بعض الأفهام السقيمة والتي لاتصح من بعض علماء السوء ومن الآيات الصريحة في توجيه الخطاب الإلهي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ) فارتقب يامحمد ! في حياته أم في مماته ؟ وللمعلومية للقراء الكرام أن الخطاب هنا في عمومه لايمكن أن يقع إلا على التعيين وللتوضيح قال تعالى (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءَ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ . ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ. إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ. يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ . )وهنا لا يمكن حمل الخطاب على الجنس يمنعه ذكر الله تعالى أنهم تولّوا عنه وقالوا معلَّم مجنون . ولو قال أحدهم أن معناه تولوا عن سنته !!!! فهذا تأويل باطل وتفسير لايستقيم وهذا غير جائز في جنس الأمة من لدن النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة أيضا من أبطل الباطل كما هو ظاهر فالكثير والكثير في هذه الأمة تولوا عن سنته ، ومع هذا من الظلم إنزال الخطاب عليهم لأنه لا يلزم من التولي عن السنة اتهام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالجنون !؟ وحتى يفهم الكثير هنا لابد أن نبين أن الآيات التي ذكرتها جاءت على صيغة الخبر ! فقد أخبرنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن الدخان سيكون في آخر الزمان ولا يستقيم القول لمن تأولها في كفار قريش .
وللحديث بقية .
المهدي .