وإليك أخي القارئ بيان أقوال العلماء في أن المنكر يجوز تغييره باليد لإفراد المسلمين فضلا عن إمامهم
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ( 2 / 25 ) عند شرح حديث ( من رأى منكم منكرا … الحديث ) :
(( قال القاضي عياض رحمه الله : هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به ، قولا كان أو فعلا ، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه ، أو بأمره إذا أمكنه ، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل وبذي العزة الظالم المخوف شره ، إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله . كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى ، ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرا أشد مما غيره لكون جانبه محميا عن سطوة الظالم ، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرا أشد منه : من قتله أو قتل غيره بسببه كف يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف ، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه ، وكان في سعة ، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى . وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب ، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره أو يقتصر على تغييره بقلبه ، هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين .
ثم قال النووي رحمه الله : (( قال إمام الحرمين رحمه الله : ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الامر إلى نصب قتال وشهر سلاح ، فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان )) أ.هـ .
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في ( أحكام القرآن 1/293 ) : وإنما يبدأ باللسان والبيان ، فإن لم يكن فباليد ، يعني أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه بنزعه عنه وبجذبه منه ، فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه ، وذلك إنما هو إلى السلطان لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجا إلى الفتنة ، وآيلا إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلا أن يقوى المنكر ، مثل أن يرى عدوا يقتل عدوا فينزعه عنه ولا يستطيع ألا يدفعه ، ويتحقق أنه لو تركه قتله ، وهو قادر على نزعه ولا يسلمه بحال ، وليخرج السلاح ) أ. هـ .
وتضافرت النصوص عن الإمام أحمد في إراقة الخمور وكسر آلات اللهو ، وقد رواها الخلال في كتابه ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) فمن ذلك :
1 ) وأخبرني أحمد بن محمد بن مطر وزكريا بن يحيى أن أبا طالب حدثهم أنه قال لأبي عبد الله : نمر على المسكر القليل والكثير أكسره ؟ قال : نعم تكسره ، لا يمر بالخمر مكشوفا . قلت فإذا كان مغطى ؟ قال : لا تتعرض له إذا كان مغطى . ( ص / 64 ) .
2 ) أخبرني أحمد بن حمدويه الهمذاني قال حدثنا محمد بن أبي عبد الله ثنا أبو بكر المروزي قال : قلت لأبي عبد الله : لو رايت مسكرا مكشوفا في قنينة ، أو قربة ترى أن تكسر أو تصب ؟ قال تكسره . ( ص / 64 ) .
3 ) أخبرني محمد بن أبي هارون أن إسحاق حثهم قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل يكسر الطبل أو الطنبور أو مسكرا ، عليه في ذلك شيء ؟ قال أبو عبد الله : اكسر هذا كله ، وليس يلزمه شيء . ( ص 74 ) .
4 ) أخبرنا أبو بكر المروزي قال : قلت لأبي عبد الله : أمر في السوق فأرى الطبول تباع ، أفأكسرها ؟ قال : ما أراك تقوى ، إن قويت . قلت : أدعى أغسل ميتا ، فأسمع صوت طبل . قال : إن قدرت على كسره فاكسره ، وإلا فاخرج . ( ص / 71 ) .
5 ) أخبرني عمر بن صالح بطرسوس ، قال : رأيت أحمد بن حنبل مر بعود مكشوف ، فقام ، فكسره . ( ص /68 ) .
6 ) أخبرني الحسن بن علي بن عمر المصيصي قال : سمعت عمر بن الحسين يقول : كسر أحمد بن حنبل طنبورا في يد غلام لأبي عبد الله نصر بن حمزة ، قال : فذهب الغلام إلى مولاه ، فقال له : كسر أحمد بن حنبل الطنبور . فقال له مولاه : فقلت له : إنك غلامي ؟ قال : لا . قال : فاذهب ، فأنت حر لوجه الله تعالى . ( ص / 68 ) .
7 ) أخبرني محمد بن علي حدثنا صالح بن أحمد أنه سأل أباه عن الرجل يستغيث به جاره من فاحشة يراها . قال : كل من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده غيره ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان . ( ص 63 ) .
ومما نقل عنه ـ رحمه الله ـ في توبيخ فاعل المنكر والتشهير به ..
8 ) أخبرني محمد بن جعفر بن الحارث حدثهم أنه قال لأبي عبد الله : إن لنا جيرانا يشربون النبيذ في الطريق . قال : إنههم أشد النهي ، وأغلظ لهم ووبخهم . ( ص 50 )
9 ) أخبرني محمد بن علي الوراق أن محمد بن أبي حرب حدثهم قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه ، قال : يأمر . قالت : فإن لم يقبل ؟ قال : تجمع عليه الجيران وتهول عليه . ( ص 50 ) .
10 ) أخبرني منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد النسائي حدثهم قال : سمعت أبا عبد الله سأل عن الرجل يمر بالقوم يغنون ، قال : إذا ظهر له ، هم داخل . قلت لكن الصوت يسمع في الطريق . قال : هذا قد ظهر عليه أن ينهاهم ، ورأى أن ينكر الطبل ـ يعني إذا سمع حسه ـ .. قيل له : مررنا بقوم وقد أشرفوا من علية لهم ، وهم يغنون فجئنا إلى صاحب الخبر فأخبرناه ، فقال : لم تكلموا في الموضع الذي سمعتم ؟ فقيل : لا . قال : كان يعجبني أن تكلموا ، لعل الناس كانوا يجتمعون ، وكانوا يشهرون . ( ص 50/51 ) .
وقال النووي في روضة الطالبين ( 10 / 220 ) :
( وأما صفة النهي عن المنكر ومراتبه ، فضابطه قوله صلى الله عليه وسلم : (( فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه )) فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه ولا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد ، ولا تكفي كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان ) . وقال أيضا في إتلاف الملاهي ( 5/ / 18 ) : ( ومما يتلق بهذا الفصل أن الرجل والمرأة والعبد والفاسق والصبي المميز ، يشتركون في جواز الإقدام على إزالة هذا المنكر وسائر المنكرات ، ويثاب الصبي عليها كما يثاب البالغ ، ولكن إنما تجب إزالته على المكلف القادر . قال الغزالي في ( الإحياء ) وليس لأحد منع الصبي من كسر الملاهي وإراقة الخمور وغيرهما من المنكرات ، كما ليس له منع البالغ ، فإن الصبي وإن لم يكن مكلفا فهو من أهل القرب ، وليس هذا من الولايات ، ولهذا يجوز للعبد والمراة وآحاد الرعية ) .