عاد مازن الى البيت وعادت له عافيته, فظنت سارة انه ربما يعتبر بما حصل له ويعدل عن مساره القديم ولكن دون جدوى. فقد عاد الى البيت وهو يتهكم عليها-ولم يعلم ان دمها يجري في عروقه- ويقول لها: ان ما حصل لي انما كان بسببك وبسبب ذلك السافل. قالت له: ذلك السافل كما تزعم لم يبخل عليك بدمه فقد فعل مالم تفعله امك التي حبها لك لا يحصى. سكت برهة, ثم قال مجيباً: إن كان ذلك كما تدعين, فإنما كان لأغراض شخصية, ولكني سأضع حداً لمصالحه حتى وإن تستر عنها بدمه! توسلت سارة الى مازن ان لا يفاتح عبدالله بموضوع من هذا القبيل وقالت له: يكفي ان تكون العلاقة بيني وبينك بهذا الشكل فأرجوك مازن ان لا تكدر علاقتي بأبناء عمومتي, فهم اخوتي واحب ان اراهم كما احب ان اراك, كيف لعلاقة عمرها عشرات السنين ان تذهب هدراً في يوم واحد! لا تفعل ارجوك ووالله ما كتب الي عبدالله قط ولم اسمعه يوماً يقول بالشين فهو اخي كما ليلى اختك ولو كانت لعبدالله اخت لكانت اختك كذلك. سأسامحك بما تفعل بي وافعل بي ما شئت فإنما انا انت وما تفعل الا بنفسك! ولكن ارجوك لا تخاطبه ولا تتهمه ولا تمسه بسوءٍ ابداً, فإن كان عبدالله او ابراهيم اهلاً للسوء لكان الخير معدوماً عن الناس اجمع. لم يهمه مازن كلام اخته ولم يعطه اي اهتمام وقال لها سائلاً: ماذا فعلت بك؟ لم ترين شيئاً بعد, وما فعلت بك ليس الا قليل العقاب من الكثير الذي تستحقين؛ واعلمي ان اؤلاءك ليسو بإخوتي ولا حتى اخوتك كما تدعين وإن كانوا فإنما بالإسلام. "وأي اخوة بالإسلام تتحدث عنها؟ أهكذا يأمر الدين الحنيف ان يعامل الأخ اخاه واخته؟ أهذا ما يُترجم قوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. وقوله: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. اي بنيان, اي مودة, اي رحمة, واي عطف في اخوتك لهم-في الإسلام- واخوتك لي في الدين والدم؟" اجابت عنه. قال مازن معقباً على اخته: لا يخصك هذا الأمر؛ ووالله لأن لم تخبريني بما تخفين عني لأجعلنك عبرة لغيرك. تركته سارة واشتكته الى امها كما كانت تفعل في السابق ولكن هذه المرة بهيجان البكاء وغزارة الدمع. سئمت ام مازن من تعامل مازن مع اخته بهذه الطريقة فأرادت ان تضع لذلك حداً وقالت له: لم ترد ان تذهب الى الجامعة وأن تكمل دراستك, فقبلناها منك بعد ما سئمنا, ومنعت اختك من الذهاب فامتنعت بغصبك لا برضاها وقبلناها منك؛ امَّا انك تستمر بتوبيخك لها وبتعاملك معها بهذه الطريقة فلا ارضى ولن ارضى لك ذلك. لم تكن تعلم ان سارة قد صفعت على خدها وانه ربما انذره الله عز وجل بما حدث له بسبب تلك الصفعة. اجاب مازن امه وقال: ،الرجال قوامون على النساء، وليس يخصكن هذا الأمر فهو للرجال. شعرت الأم بانها بدأت تجني الثمار.
وفي يومٍ من الأيام مرض مازن مرضاً شديداً حتى انه كان يصرخ صراخاً عالياً من شدة الألم فأسعفتاه امه وسارة الى المستشفى فبلغهم الطبيب ان مازنا مصاب بفشل كلوي! اغمي على ام مازن-ولا غرابة في ذلك فهو الإبن الوحيد في جعبتها- واخذت سارة تصرخ وتشهج بالبكاء. أُسعفت ام مازن وانشغلت سارة بأخيها فسألت سارة: وما الحل؟, "زراعة كلية له, او غسيل!" اجابها الطبيب, "وكيف تزرعون له كلية؟" سألت سارة. "تبرع اذا امكن" أجاب عنها الطبيب. فقدمت سارة نفسها الى غرفة العمليات لكي تتبرع لأخيها بكلية! تبرعت سارة لأخيها بكلية ونجحت عمليتا الإستئصال والزراعة وفاقت الأم من غيبوبتها فوجدت الإثنثين معاً على الأسرّة ونظرت الى سارة فإذا بها تبتسم, فذهبت الى مازن وقبلته على جبهته وحمدت الله على عافيته وتناست سارة! لم تكن سارة مستاءة ابداً بل ظلت تبتسم؛ ومن سوء حظ سارة ان عبدالله وابراهيم وليلى كانوا من بين الذين اتوا لزيارة مازن. ذهب عبدالله الى سارة يشكرها على فعلها ويقول لها: فعلتِ فعلت الأبطال. فقالت: اخي,,,,,,, وروحي لها فداء. بالطبع ذلك الحديث لم يكون يحمل السرور لمازن الذي يكتم غيظه-الموهوم-على فراش المرض. عادوا الى البيت جميعاً وظنت سارة ان ما فعلت قد وضع حداً لكرهٍ دام لأشهر طوال بلا حجة ولا تبرير. للأسف لم يحصل ما أملت وعاد اخوها الى سابق عهده وقال لها: أردتِ ان تشترين عبدالله بكلية؟ وسألها مجدداً عن الرسائل! انصرفت سارة وهي تشهج بالبكاء وفتحت له غرفتها على مصراعيها وقالت له: ادخل وابحث عنما شئت كيف ما شئت واينما شئت؛ اروِ عطشك. لم يدخل مازن وتركها وانصرف.
سارة والتي ضاقت بمعاملة اخيها الحادة ذرعاً هزلت ونحل جسمها وتغيرت ولم تكن هي سارت المعهوده. مرضت سارة وظلت اياماً في البيت طريحة فراشها, ولما زارتها ليلى ورأت انها قد تغيرت ولم تحب ان تراها بتلك الحالة طلبت من ام مازن ان تسعفها الى المستشفى فأسعفوها. سارة والتي حظيت بحب الجميع لها لحسن خلقها وطيب معاملاتها لم يبخل الناس عليها بالزيارة. ظنت سارة ان اخاها لن يبخل عليها بزيارة واحدة-كما هي لم تبخل عليه بدمها وكليتها- ولكن مازن انشغل بتفتيش غرفتها ليُشهد عليها رسائلها. مازن وعلى خلاف ما توقع وجد صورة له ولأخته سارة عندما كانا صغاراً في دولابها وفيها سهم يشير الى خلفية الصورة. قلب مازنٌ الصورة فوجد فيها:
اعطيتك دمي!
"المسلمون اخوة" ولما وجدت اني امتلك دماً اكثر من دمك ابيت الا ان اقاسمك دمي.
اعطيتك كليتي!
"المسلمون اخوة" ولما خسرت كليتيك ابيت الا ان اعطيك كلية لننعم كلانا بالحياة.
ولقد كنت وما زلت ادخر لك قلبي... فوالله ما اعطيته احداً الا انت!
اعطيتني صفعات على وجهي وكلام وبخني كثيراً وظناً سيئاً!
لذلك لن اسامحك الا بشرط: ان تستبدل كرهك بمحبتي!
مازن وبعد ان تأكد ان اخته لم تكتب حرفاً لعبدالله بنفسه ارتعش لما قرأ تلك العبارات واجهش بالبكاء وضم صورة اخته الى صدره وظل يقبلها! اراد مازن ان يذهب الى اخته ليستسمحها ويعيدها الى البيت بيديه ويغسل دموعها في الماضي بدموعه في مستقبلها. ذهب الى المستشفى وبيده صورتهما وادخل الى غرفة اخته فوجد الكل يبكي! عندها اندهش وعلم انه قد تأخر كثيراً ووصل بعد فوات الأوان. سارة والتي لطالما انتظرت طويلاً كي ترى اخاها امام عينيها قبل ان تفارق الحياة, فارقت الحياة من غيرما مقابلة! سأل مازن عن ماذا حدث فلم يجبه احد لكونهم انشغلوا بالبكاء وكلهم علم بأن سبب مرضها كان من اخيها. صرخ مازن بصوت عالٍ وقال: ماذا حدث؟ فقال له عبدالله: عظم الله اجرك؛ ماتت يا مازن! عندها ايقن انه قد خسر ذلك الوجه الذي اجرى من عيني صاحبته دموعاً كثيرة؛ وقدم بعد ذلك ودموعه تسيل على خديها يقبل ذلك الخد الذي احتفظ بلونه الأحمر دليلاً وشاهداً على صفعاته! صرخ وصرخ وصرخ فقال له عبدالله: استهد بالله وادعو لها بالرحمة؛ وأبشرك بأنها لم تمت الا وهي راضية عنك! فلقد كان من وصايها بأن بخبرك بأنها تحبك! لم تخفف تلك الوصية من آلامه بل كما قيل زادت الطين بلة...
بعد ان استسلم مازن لأمر الواقع وعلم ان اخته قد ذهبت بلا رجعة؛ ذهب يتسائل عن الشرط الذي تركته مكتوباً على الصورة. فسئل احد اصدقائه فقال له: لعلها تعني بأن تحب من كانت تحب هي! فعلم انها كانت تقصد اولاد اعمامه وليس عبدالله فحسب. ذهب مازن ينفذ شرط اخته واستسمح اولاد عمه الذين اخذتهم الدهشة عندما طلب ذلك وقالوا: تستسمحنا في ماذا؟ لم تؤذنا بشيء!, "بل اذيت وأذيت وأذيت" أجابهم. ولما قص عليهم قصصه استغربوا من فعل سارة وقالوا: رحمكِ الله يا سارة؛ ستظلين حية الى الأبد بفعلك هذا.
بعد ان عادت المياه الى مجاريها وعادت المودة الى قلب مازن لأولاد عمه وكان يخرج مع عبدالله ويجلس معه كثيراً, وبعد اشهر من وفاة سارة, كان عبدالله ومازن يتحدثان مع بعضهما فيما كان ابراهيم واخته ليلى يتحدثان الى بعضهما ويضحكان في نفس الوقت, قال عبدالله لمازن: كم تمنيت ان اكون مع اختي في موقفٍ كهذا! اختي التي ذهبت منذو زمن بعيد وقبل ان اشم رائحة الحياة اخذها الله في صغرها ولكم تمنيت ان اكون في موقف مثل هذا الموقف؛ اضحك مع اختي واشكو اليها آلامي واشتري سعادتها بكل ما املك. قال مازن: وكيف اذا قدمتك على نفسها وقدمت حياتك على حياتها, ماذا ستفعل؟ "سأجعل منها اختً يذكرها التاريخ الى يوم القيامة!" اجاب عبدالله. "هذا انت, ولم تحضى حتى برؤيتها؛ وانا الذي عملت كل شيء من اجل ان تسعدني وارضى عنها وقاسمتني دمها وكليتيها تركتها تموت وكانها عدوٍ اجهز على قتلي مرات عدة" أضاف مازن. قال له عبدالله: البركة بمن بقي معك. قال مازن: ولكن سارة... سارة... سارة. فبكى ولم يستطع ان يكمل. فاحتظنه عبدالله وهو يبكي ويقول: يكفي يكفي. نظر مازن الى عبدالله وقال له: بقي عندي ثلاث اخوات؛ واعلم انهن اخواتك قبل ان يكن اخواتي واعلم اني لا اريد ان اكرر ما حصل لسارة ثانية. ابتسم عبدالله في وجه مازن وقال: امتحنك الله بنعمته منذو زمن طويل وها انت عرفت قدرها اليوم فاحمد الله على ذلك واستغفر لسارة ما حييت. "سأفعل ما تريد وربي" رد عليه مازن. انصرف مازن وعبدالله الى ابراهيم وليلى فالتقوا وهم يضحكون وافترقوا وهم يبكون-بفعل سارة؛ واستطاعت سارة بدمها وكليتها وموتها ان تجعل من بغضاء وكره دام لسنوات وركد في قلب مازن, محبة واخلاص ووفاء لأولاد عمه!
فضل عويضان اليافعي