[align=center]صاحبي عرفج بن شيحان رجل رحال سفار لا يقر له قرار ، طاف الشرق والغرب ، لم يترك بقعة على ظهر الأرض لم تطؤها قدماه . سفراته مليئة بالعجائب والغرائب .
حدثني عرفج في ساعة ود وصفاء بعدما ألححت عليه بالسؤال قال :
رمت بي الأقدار في سنة من السنوات إلى بلاد أفريقية ، فجالست القوم فآنستهم وآنسوني ، فأكلت مما يأكلون وشربت مما يشربون ، ورأيت من عجيب عاداتهم ما لاتصدقه العقول ، لكني سأضرب عن ذلك صفحاً الآن وسأعود إليه في مرة أخرى . قال ومما جرالي في أفريقية ، أن زعم بعض الأصحاب والخلان أن في بحر الظلمات ( محمية ) لايأتيها أحد إلا بإذن حاكمهم ، وفيها طيور آية في الغرابة ، أجسامها كأجسام الضأن ، وأجنحتها تزيد على قامة الإنسان ، وألوانها شتى . فلما سمعت مقالتهم هذه آليت الاّ أعود إلى بلدي قبل أن أرى هذه الطيور ، ولو بقيت بينهم دهرا .فأخذنا الإذن ، وسرنا بعد يومين محاذين لسيف البحر، نعالج الكثبان الشاهقة والحرارة القاتلة ، حتى وصلنا المقصود وقت الزوال ، ورأينا بوابة شاهقة ، وحولها بعض الجند بأمر السلطان ، فولجناها ، ثم سألناهم أين المسير ؟ فأشاروا إلى خيام قد نصبت ، فقصدناها ، وحولها مجموعة من الزنوج ، لم أر في حياتي مثل أجسامهم طولا ، فداخلنا شي من الخوف ، فجاءنا رجل عربي اللسان ، غاية في الخلق والاحترام ، فسألناه عن تلك المحمية ، وهل لنا أن نذهب إليها الآن ؟
فقال : سمعاً وطاعة ، لكم ماتشاؤن ، لكن الوقت قد تأخر ، فأقيموا هنا الليلة ، وفي الصباح نجهز لكم القارب ، فتسيرون على بركة الله ، قلنا حباً وكرامة . فقضينا ليلتنا في أنس وحبور ، وما نعلم ماتخبئ لنا الأقدار .
قال عرفج : فلما بزغ الفجر صلينا صلاتنا ، فجاءنا زنجي من القوم فقال: هلموا إلى حاجتكم فالقارب على أهبة الاستعداد ، فركبنا قارباً عجيبا ، طوله يزيد على عشرة أمتار ، وعرضه يقل عن المترين ، يتوسطه الصاري الطويل ، وفيه أشرعة كبيرة ن تحركها الرياح بإذن الله تعالى .
كنا سبعة نفر ، وزنجيان لقيادة القارب وتحريك الشراع وقت الحاجة ، وزنجي ناهز البلوغ مهمته إعداد الطعام .
قال صاحبي عرفج : فسرنا ماشاء الله لنا أن نسير ، في بحر أجاج ، متلاطم الأمواج ، لانطمع إلا برحمة أرحم الراحمين ، ولا نرى إلا سمك ( ) ترتفع في الهواء ثم تعود إلى عمق الماء.
قال : فلما توسطنا عرض البحر حدثتني نفسي الأمارة بالسوء أن أصيب ثاراً لي عند بعض صحبي ـ وكانوا قد رموني على غفلة مني في بركة تغذيها شلالات تنزل من أعلى الجبل قبل عدة أشهر ـ فقلت في نفسي : حانت ساعة الثار ياعرفج ، فقلت لأحدهم ـ ولم يكن بيني وبينه ثار ـ يا إبراهم ، قال : لبيك ، قلت مارأيك لو غطّسنا أصحابنا في الماء بلا ضرر على حياتهم ، قال : كما تحب ـ وكان رجلاً قوي البنية حسن اللياقة ـ فنادينا أحدهم ، فلما وصلنا أمسكنا بساعديه ، وقلنا له لابد أن تغطس في البحر ، فقال: كيف تطرحوني في هذا البحر المتلاطم وأنا لا أعرف العوم ؟ تا الله ماهذا حق الصحبة ، فقلنا : قد صدر الأمر وانتهى ، فنحن نمسك ساعديك ، وأنت تمسك حبل الصاري بكلتا يديك . فأدخلناه في البحر ، حتى وصل الماء إلى التراقي ، وهو يصيح بأعلى صوته ، فأخرجناه وهو ينتفض انتفاض المحموم . فنادينا على الثاني فرفض ، فكان مصيره مصير صاحبه ، ثم تلاه الثالث ، وأعرضنا عن الباقيين ، لكبر سنهما وفضلهمما ، وإن كان داخلهما شي من الخوف ، لكنهما كانا يشجعاننا ، لكسب ودنّا .
قال عرفج : قال أصحابنا : هذه قسمة ضيزى ، كيف ترموننا بالبحر وترجعون سالمين ؟ قلنا هكذا الله خلق الناس قوي وضعيف ، قالوا : نرميكم مثلما رميتمونا ، قلنا والله لايكون أبدا ، لكن جبراً لخواطركم سننزل البحر من تلقاء أنفسنا ، فنزلنا معتمدين على ما آتانا الله من قوة ، ونسينا أن الله سريع الانتقام ، فصرنا نسبح بجوار القارب حتى أدركنا التعب ، وأوشكنا على العطب ، فأنقلب الهزل إلى جد ، ونادينا بأعلى الأصوات ، فرموا لنا بحبال غليظة ألوانها كلون الماء فأخطأناها،
وسار صاحبي إليهم بجد ونهم حتى وصل إليهم وهم غير بعيد ، فركب واستلقى لايحير جواباً من التعب والنصب .
قال عرفج : أما أنا فليس لدي من اللياقة مالديه ، فكنت أسير خطوة ويبتعدون عشرين خطوة ، حتى ابتعدوا عني جدا ، فصرت أنظر إليهم ولا أرى إلا طرف الشراع الأعلى ، وأنا مجتهد في السباحة ، عندها توقفت ، وقلت لنفسي : إني أرهق نفسي ببذل جهدي ، وأخسر قواي بلا طائل ،
فتوقفت عن السير ، فكنت أسبح مرة على بطني وأخرى على ظهري ، حتى يزول عني التعب .
فالتفت يمينا وشمالا ، فلم أر إلى الماء والسماء ، فانتابني اليأس ، وأيقنت بالهلاك ، وقلت حتى لو رجع أصحابي فسأغرق قبل أن يصلوا إلي . وأصابني اليأس بتعب وهمي كاد يسلمني إلى الغرق ، ففكرت بالنزول إلى قاع البحر هروباً من هذه الهواجس ، فطردت هذا الخاطر خوفاً أن يكون عملي انتحارا . فبدأت أتشهد وظننت أني هالك لامحاله ، وبدأت استعرض أيام حياتي بسرعة فائقة ، فغاب عني كل خير عملته ، ولم أر إلاّ شرّ الأعمال تتزاحم كأنها تريد إهلاكي ، ولم أتذكر من محاب الدنيا إلاّ صبية تركتهم ينتظرون قدومي ، وكان لي بنية جاوزت السنتين ، فتذكرتها ورثيت لها بعدي ، كانت إذا دخلت الدار جاءتني تتخثع في مشيتها مرددة بابا بابا ، فحزنت ليتمها بعدي .
قال عرفج : فبينا أنا على هذه الحال ، من الخوف واليأس والإنهاك ، إذ رأيت شراع أصحابي يكبر ويكبر ، فأمعنت النظر وإذا بهم يتجهون نحوي ، فصب الله علي من النشاط والقوة والحيوية ـ بعد ما لاح الأمل ـ شيئا عجيبا ، فتعجبت كيف أن الأمل مادة قوة ، كما أن اليأس مادة ضعف وخور، فقد يهلك الإنسان يأسه ولو كان يأساً متوهما ، كما أن الأمل قد يرفعه إلى أعلى الرتب . ونظرت شمالي فرأيت قارباً آخر يقلّ قوما من الفرنجة يتجهون نحوي . وكان من خبرهم أنهم رأوني لما سقطت في الماء ، ورأوا ابتعاد أصحابي ، وكانوا يراقبوننا بالمنظار وهم عنا بعيد ، فظنوا أنه قتل متعمد فرجعوا إليّ ، لكن لما رأوا صحبي قد وصلوا تراجعوا .
قال عرفج : فلما صعدت القارب استقبلني أصحابي بالسلام والعناق والبكاء ، فقلت مابالكم ؟ قالوا والله ماكنا نعدك في الأحياء ، فضحكت ـ كيداً ومكراً ـ وقلت : الأمر يسير سبحت فرجعت إليكم ، وكانت وجوههم مسودة تعلوها الكآبة . ورأيت صاحبي لازال مستلقي من التعب ، فنضج الطعام ، فلم يأكل إلا أنا وأحدهم ، قالوا والله مالنا في الأكل من حاجة ، قد أصابنا هم وغم وضيق لايعلمه إلا الله ، قلت أنا أسألكم ثكلتكم أمهاتكم : ناديتكم مراراً فلم ترجعوا إلا بعد مدة طويله ، ماسبب إعراضكم ؟ قالوا : والله لاندري ، أصابتنا صدمة فتوقفت عقولنا ، ولم ندر مانفعل ، فعجزنا عن النطق والتفكير ، وقلت للزنج مابالكم لم ترجعوا قبحكم الله : قالوا لم يأمرنا أحد بالرجوع من أصحابك ، فقلت تباً لكم ترون غريقاً وتنتظرون الأمر ؟
قال أصحابي : بعدما أفقنا من هول الصدمة وكنا قد ابتعدنا قلنا للزنج أرجعوا إليه ، فقالوا : هذا المنطقة من أعمق مناطق البحر ، وفيها من أسماك القرش الشيء الذي لايوصف ، وما نزل البحر هنا أحد فنجا ، فأدخلوا في قلوبنا الرعب ، ورجعنا إليك ونحن على يقين أنك طعاماً لأسماك القرش .
قال محدثي : أكملنا مسيرنا ورجعنا قبيل الغروب ، ثم بتنا ورجعنا إلى أهلنا ، وقد مضت عدة أشهر وما نجلس مجلساً ، إلا ويتحدثون عن هذه الحادثة ، حتى قال لي كبيرنا : ربما فكرت في غرقك وأنا على سريري وقد غطيت باللحاف رأسي ، فأقوم فزعاً كاللديغ وأرمي اللحاف .
هذه حكاية من حكايات عرفج بن شيحان ، وسيتلوها حكايات أخر بإذن الواحد الأحد .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[/align] .