ليالي صيفية
اتجهت في احد اليالي الصيفية المشتعلة الى اطراف المدينة . وكنت في الطريق ارى تلك الشوارع تنزف اجساداً انهكتها خلجات النفس الملتهبة قبل ان يهلكها الحر لتصبح هياكلاً يزفها الخمول وتنهشها انياب الهموم لتجبرها على الخروج الى اطراف المدينة حيث اتجهت فأصبحت دونما اعلم واحداً من فرائسها ..
منظر الهياكل المتناثرة على بقايا حطام الخشب و وسحائب الدخان المتصاعدة من كل مكان هي الشئ الوحيد الذي اشعرني بوصولي الى الوجهة المقصودة .. دخلت وانا ارى دموعاً كالحبر المخفي تتوارى خلف ضحكات وهمية فضحتها هيئتهم و نبراتهم فكانت تلك الدموع اراملاً تتزين بثياب عروس ..
استقريت في احد الكبائن التي هي اشبه بعلبة السردين لما تعج به من روائح متباينة وحتى قبل ان
ا ستقر في جلستي و اخذ موضعي من هذه الكبينة التى على الرغم من سعتها الا ان خيارات الجلوس فيها قليلة ان لم تكن معدومة و ذلك لكثرة ما عانته من طعنات الهياكل مابين سكبة شاي و موضع حرق و جرح غائر من احد المفاتيح او الاقلام الهائجة… بعد ان استطعت ايجاد المكان المقبول و اذ بذلك الاخطبوط البشري و هو يحمل معه عشرات الزجاجات وكأنه بمائة يد و اكمالاً منه لدور الاخطبوط نفش صدرة امامي و بلغة مكسرة كانت هي السائدة لمن اراد رضاء الاخطبوط عنه
- سيسه " اور " زراك ..
واستغلالاً مني لما درسته في الاتصال الخطابي و نظريا ت ستان سلفنسكي من الربط الحسي للمعنى المجرد عرفت دون عناء ان المقصود ب "سيسة " هي الشيشة او كما يحلوا للبعض تسميتها بالارجيلة و ان المقصود ب " زراك " هو الجراك وبعد تحليل الخطاب رفعت رأسي بكل جهل او تجاهل لضروف المكان و الزمان المبنية في ذلك الموضع و صوت بالرفض
ولما فعله هذا الرفض من اثر - و كأن "اللاء " التي نطقت بها كانت "لا" لاحد معاهدات السلام او "لا " لتفاقية دولية تبعثر بخروجها جهد سنوات – اضطررت لتغيرها لنعم فكانت نعيماً لي ظهر جلياً في تقاسيم ذلك الاخطبوط الهندي الذي انطلق على الفور وهو يشق حزم الصوت التي تهاجمه من كل الرجاء هذا المكان بألقاب مختلفه كانت ترسم لي سيراً ذاتية لناطقيها :
فكانت الاولى من شخص لايرتاد هذا المكان كثيراً لأنه اكتفى" بصديق"
وكانت الاخرى من شخص يربطه بهذا الاخطبوط علاقة حميمة ليس لأنه ناده بأسمه "رافل" وانما لان هذا الخطبوط رد عليه بنظرة تودد تعني ان طلبك تحقق قبل ان تبديه
وكان الاخر مستاء من المكان و هو يحدث زميله بأشارته لتجاهل هذا الاخطبوط المشغول عنهم ..
وبينما انا بنتظار مادفعت ثمنه مقدماَ واذ بسحب الدخان تتصاعد مع همسات و ضحكات من هم في هذا المكان الصاخب و كأنه اعلام عن بداية العرض فحاولت استرق السمع و اذ بحزمة صوتية تصدر من حنجرة شخص انهكها بشرب هذه المحاليل فجاء الصوت اجشاً مرعباً يتوشح ببردة المرض و الانهاك :
لا تكابرون .. المشاريع تحتاج لرأس المال الوفير .. انت لا تتاجر لتزيد من ديونك انما لزيادة دخلك
لتواجهها حزمة صوت قادمة من الاتجاه المعاكس ولكنها اجش واقوى من الاولى :
ومن قال لك ان رأس المال يأتيك و انت نائم في بيتك .. لابد من المخاطرة بالديون و المشاريع الصغيرة لكي تكبر و تبدأ بالمشاريع الكبيرة
وكان الجامع لك هذه الحزم ايقاعات هذه الالة الزجاجية و تبخيرها الدخان من افواههم الحالمة لتبخر معها تلك الافكار التي بدت قوية بطرحها .. وقد بدا مما سمعت ان الفعل الاقتصادي هو المسيطر على هذه الجلسة فرحت في تفكير عميق اتذكر حياتنا البسيطة و جلسات العشش التي كنا نتبادل فيها ما لذ وطاب من ابيات الشعر و الاهازيج و الروحانيات و التي لم تنفك هذه الايام من هذا الفعل الاقتصادي حيث لمها في عباءته و القى بظلاله عليها فصبحت الابيات تنظم لشحذ المال و بات المديح يسل لصغر القوم و حقرائهم لمصالح مشتركة . و اصبح الشاعر و الاديب و المفكر بضاعة مزجاة لايجد مايأكله .. زمن اصبح الجاهل والذي هو اجهل من حمار اهله او ان صح التعبير اجهل من سيارة اهله الفاخرة اصبح له شأن عظيم يدخل المجلس فيصدر ويلقي الكلمة فتكتب حكمة من حكم الاسبوع و معلقة في الطرق و الشوارع وبد الامر موكلاً لغير اهله ..
ولم تمنحني طبقات الدخان هذه فرصة فقد حملت ماكان عندي من افكار و طارت بها مع افكارهم لتأتي حزمة صوتية من الجهة الخرى مستغلة هذا الفرغ الشاغر في فكري وتنقل لي ملخصاً لجلسة اخرى :
وبات موضوعاً اقل مايقال عنه انه تافه على الاقل في ميزاني ولكن ماشدني فيه هي حزم الحلف بالعظيم سبحانه فراحت اسلاك الايمان الغموس تلفه من كل جانب وراح فكري ينقلني في قاربه و فكرت وقدرت .. كيف لهم ان يسخروا من اسمه سبحانه و يربطونه في كلام تافه مثل هذا .. ايعقل ان يشرك اسمه سبحانه في لافائف من الكذب و التلفيق استغفر الله العظيم .. لعنة الله على زمن باتت معصية الله هي الطريق لتفاخر و بات الزنا هو الذي يسموا بالشخص ويجعله من علية القوم ولم استطع منع عيني من افرغ ما بها من حمل ثقيل فسالت معه تلك الافكار و رحت امسحها واتهرب من حزمة الصوت تلك ومن مواضيعهم ورحت ارقب الارض من تحتهم يوم تزلزل زلزالها و تخرج اثقالها مساكين ياله من يوم عصيب على هذه الهياكل الضعيفة
واستنجد بالريح ان تعجل لي بحزمة جديدة تحمل لي موضوعاً يغسل ما قامت به تلك الحزم السابقة واخيراً تحقق طلبي فجاءتني حزمة مرنمة ذكرتني بترانيمنا ايام العشش سابقة الذكر ففرحت و طربت و اذ بها لفيف من الكلمات التي اجزم ان سامعيها لايعرفون اغلبها و لكنهم بوشاح التبختر و التمظهر اكتفوا بكلمة " صح لسانك " بعد كل شحنة كلمات يلقيها عليهم وراح تفكيري ينقلني مرة اخرى و سألت نفسي ماذا لو تجرأت والقيت على هذه الهياكل ابياتاً من اعظم ما قال ابوتمام او من حكم زهير او من رثاء الباروني هل ستتبع " بصح لسانك "
ام …….
على كل حال نحن مرضى بداء مزمن اسمة صعوبة الامزجة !!
ولكن ماذا يفعل هذا الشخص الذي امامي .. مثل حركاتي و يرقب مثلي منهم امامي لعل حال كل من اتى وحده لهذا المكان مثل حالي
ظلام يسد افقي وبصوت المستعجل و بنفس الهجة المكسرة واذ به اخطبوط اخر يضع امامي تلك الجرة :
"سيسة صديق"
- و اين زميلك الاخر ؟ ذلك الذي طلبت منه ؟
- صديق… هذا سوي طلب بس و انا يجيب طلب
فانطلقت و انا اضحك و افكر يالي هذه المقامات التي فرقت بين كاتب الطلب و جالبه
وراحت حزمة صوت مكسرة اجزم انها من اخطبوط اخر ولكن يبدو انه اخطبوط مدير :
"تعال مافيه مسكل " "غير سيسة .. غير ساي " ليس فيه روح؟؟" … وبدت تختفي تلك الحزمة شئ فشئ باتجاه اطراف المدينة حيث مقره الاصلي في تلك الاماكن و راح جسدي المتعب ينشد وسط المدينة باحثاً عن النوم ..
النهاية ……………………
اتمنى للجميع قراءة ممتعة و مفيدة
المؤلف : فرنسي الجرده
العرض العادي
