السلام عليكم
في خطواتي الأولى على شبكة الإنترنت كنت أجمع كل مقال يعجبني في مجلد خاص. وقد تجمع لديّ عدد من المقالات الجيدة في نظري .. هذا الموضوع أحد هذه المقالات .. وهو يذكرني بخطواتي الأولى في هذه الشبكة.
__________
نقرأ الشعر فنعجب به ، ونثني عل قائله ، ونعد حافظ الشعر نديماً يؤنس بالقرب منه ويلتذ بسمره ، إن الشاعر في الغالب لا يأتي بمعنى جديد يخلقه خلقاً ، ولكنه يعبر عن المشاعر المشتركة فتجد فيه النفوس سلواناً ، ورُبَّ امرئ يقرأ الشعر فيطرب له ، وما ذاك إلا لأنه قرأ معنى قد اعتمل في ذهنه من قبل ، ولكنه لم يدر كيف يعبر عنه ، فجاء هذا الشعر ليملأ قالب المعنى .
وهذا أول أسباب الإعجاب بالشعر ، ومثاله أن الوالد الحنون مثلاً يقرأ قول بدوي الجبل في حفيده :
يجور وبعض الجور حلو محبب .. ولم أر قبل الطفل جوراً محببا
ويغضب أحياناً ويرضى وحسبنا .. من الصفو أن يرضى علينا ويغضبا
يزف لنا الأعياد عيداً إذا خطا .. وعيداً إذا ناغى وعيداً إذا حبا
فيهتز له ، ويقول لم يعدُ هذا الشاعر ما في نفسي .
ورُبَّ رجلٍ حُرِم الذرية يقرأ قول عمر أبو قوس :
ولو كان لي طفل على الشيب واحد ... لكان لنفسي في دجى الخطب كوكبا
أرى فيه ريحاني وروحي وراحتي ... وبهجة أحلامي وعمري المخضَّبا
فتبدر منه آهة حرَّى ، ثم لايلبث أن يحفظ هذا الشعر ويكثر من ترداده.
وقد يولد الإعجاب بالشعر من سذاجته ، ومن ذلك قول العباس بن الأحنف :
جارية أعجبها حسنها ... ومثلها في الناس لم يخلقِ
خبَّرتها أني محبٌّ لها ... فانقلبت تهزأ من منطقي
والتفت نحو فتاة لها ... كالرشأ الوسنان في القُرطقِ
قالت لها : قولي لهذا الفتى ... انظر لوجهك ثم اعشقِ
ومن ذلك أيضاً قول القائل :
رأيتُ ظبياً على كثيبٍ ... كأنه البدر قد تلالا
فقلتُ ما الاسم قال لولو ... فقلتُ : لي لي ، فقال : لا لا
لا تعجل بالحكم على سخافة هذا الشعر ، إذ إنك لا تستطيع إنكار أنه انتزع ابتسامة منك وهذا هو السر هنا .
وقد يكون من أسرار الإعجاب : تسلسل فكر القصيدة حتى تصل إلى فكرة طريفة تثير في النفس الحماسة أو العجب
أو الدهشة ، كقول القائل :
شرِّدوا أخيارها بحراً وبرا ... واقتلوا أحرارها حراً فحرا
إنما الصالح يبقى صالحاً ... آخر الدهر ويبقى الشرُّ شرا
كسِّروا الأقلام .. هل تكسيرها ... يمنع الأيدي أن تنقش صخرا
قطِّعوا الأيدي .. هل تقطيعها ... يمنع الأعين أن تنظر شزرا
أطفئوا الأعين ..هل إطفاؤها ... يمنع الأنفاس أن تنفث جمرا
أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم ... وبه منجاتنا منكم ، فشكرا
وقد نعجب بالشعر لأنه يأتي في ألفاظ عذبة ، تدل على خاتمتها ، فيجد السامع أنه يردد عجز البيت قبل أن ينطق به
المنشد ، كقول أحدهم :
ذاكر أنت خطوتين ... يوم كنا كطائرين
نقطع الدهر بالمنى ... نلمس الفجر باليدين
وأنا أنت والهوى ... قُبلة بين عاشقين
إن تكن ذبتَ مرةً ... فأنا ذبتُ مرتين
ومن أسرار الإعجاب بالشعر أيضاً أن يأتي الشاعر بتعليل طريف لا يخطر في ذهن السامع ، ليرسخ حكماً حكمه أو
رأياً رآه ، كقول بعضهم :
أُحبُّ من حبكم من كان يشبهكم ... حتى لقد صرتُ أهوى الشمس والقمرا
أمرُّ بالجر القاسي فألثمه ... لأنَّ قلبك قاسٍ يشبه الحجرا
ومن الأسرار أيضاً ما يسمى عند أهل البلاغة بـ( الإيغال ) وهو أن يأتي المعنى تاماً ، ثم يزيد فيه ، كقول أحدهم :
إنَّ حظي كرمادٍ ... فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاةٍ ... يوم ريحٍ اجمعوه
فلم يكفه جعل حظه كرماد ، وكفى بذلك سوءاً ، حتى أضاف إليه تلك الأوصاف التي تجعله أندر من النادر.
ومن أسرار الإعجاب تضمنه معنى طريفاً تقبل عليه النفس وتهش له ، وما أجمل هذا القول :
قالوا حبيبك محموم فقلتُ لهم ... أنا الذي كنت في حمائه سببا
قبَّلته ولهيب النار في كبدي ... فأثَّرت فيه تلك النار فالتهبا
ومن أوسع أبواب الإعجاب بالشعر تضمنه حكماً تثري التجارب الإنسانية ، وكفى بترديدنا أبيات المتنبي شاهداً على
ذلك ، كقوله :
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
وقوله :
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدَّق ما يعتاده من توهمِ
وعادى محبيه لقول عُداته ... وأصبح في ليلٍ من الشك مظلمِ
وبعد فهذه خواطر آمل أن تكون ممتعة لكم .