قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد ، باب : أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله . عن عطاء بن يزيد أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله أي الناس أفضـل ؟ فقال : ( مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله ) قالوا : ثم من ؟ قال : ( مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره ). وهذا مقيد بوقوع الفتن , وروى البخاري هذا الحديث في كتاب الرقاق ، باب : العزلة راحة من خلاط السوء . وقرن معه رحمه الله حديث أبي سعيد الآخر وبه : سمعت النبي يقول : ( يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ). وهذا الحديث الأخير بوب له أيضا في الإيمان قوله ، باب : من الدين الفرار من الفتن. ونقل الحافظ ابن حجر في شرحه استدراك النووي إيراد البخاري لهذا الحديث في الترجمة فقال : لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار دينا . وهذا استدراك في غير محله ، إذ أن مراده في قوله هذا ، أن بالامتثال للأمر يصبح الفرار دينا . وقال ابن حجر في شرح الحديث : لفظه صريح في أن المراد بخيرية العزلة أن تقع في آخر الزمان ، وأما زمنه فكان الجهاد فيه مطلوبا حتى كان يجب على الأعيان إذا خرج الرسول غازيا أن يخرج معه إلا من كان معذورا اهـ. ويشهد لذلك حديث ابن عباس عن رسول الله : ( خير الناس في الفتن رجل آخذ بعنان فرسه خلف أعداء الله يخيفهم ويخيفونه ، أو رجل معتزل في باديته يؤدي حق الله تعالى الذي عليه ). وعن أبي هريرة : ( أظلتكم فتنة أنجى الناس فيها صاحب شاء يأكل من رسل غنمه )
_________________________________
وقال أنس بن عياض حدثنا هشام بن عروة قال : لما اتخذ عروة قصره بالعقيق ، عوتب في ذلك ، وقيل له جفوت عن مسجد رسول الله فقال : إني رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية ، والفاحشة في فجاجكم عالية ، فكان فيما هنالك عما أنتم فيه عافية .ثم قال : ومن بقي ؟ إنما بقي شامت بنكبة أو حاسد على نعمة.
_______________________________
والعزلة فضلها رسول الله ، وفضلها جماعة العلماء والحكماء ، لا سيما في زمن الفتن وفساد الناس . وقد يكون الاعتزال عن الناس مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ومرة في البيوت . وقد جاء في غير هذا الحديث : ( إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك ) ولم يخص موضعا من موضع . وقال رسول الله لابن عمرو : ( إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم ، فالزم بيتك واملك عليك لسانك ، وخذ مـا تعرف ودع ما تنكر ) . وعن بكير بن الأشج : أن رجالا من أهل بدر ، لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان ، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم .
وكان طاووس يجلس في البيت ، فقيل له تكثر الجلوس في البيت ؟ فقال : حيف الأئمة وفساد الناس .
___________________________________
وقال أبو عمر : فر الناس قديما من الناس ، فكيف بالحال اليوم في ظهور فسادهم وتعذر السلامة منهم ، ورحـم الله منصورا الفقيه حيث يقول :
الناس بحـر عميق والبعد منهم سفينة
وقد نصحتك فانظر لنفسك المسكينـة اهـ(11).
وقال أبو سليمان الخطابي :
أنست بوحدتي ولزمت بيتي
فدام الأنس لي ونما السرور
وأدبـنـي الـزمـان فــلا أبالي
هجـــرت فـــلا أزار ولا أزور
و لست بسائل مــا دمـت حيا
أسار الخيل أم ركب الأمير
________________________________
قال رسول الله : ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعب الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ) قال جمع من الفقهاء : هذا الحديث إنما ورد خبرا عن حال آخر الزمان ، وما المحمود في ذلك الوقت لكثرة الفتن ، وقد كان رسول الله يحض في أول الإسلام على لزوم الخواص للجماعات والجمعات ويقول : ( من بدا جفا ) والحديث المذكور أحسن حديث في العزلة والفرار من الفتنة والبعد عن مواضعها من الحواظر وغيرها ، والفتنة المذكورة في الحديث تحتمل أن تكون فتنة الأهل والمال وفتنة النظر إلى أهل الدنيا ، وفتنة الدخـول إلى السلطان ، وغير ذلك من أنواع الفتن ، ولم يرد الفتنة النازلة بين المسلمين الحاملة على القتال في طلب الإمارة دون غيرها من الفتن ، بل أراد بقوله : ( يفر بدينه من الفـتن ) جميع أنواع الفتن ، وفي ذلك دليل على فضل العزلة والانفراد في آخر الزمان كزماننا ..
____________________________________
رحم الله اباعمر لو أدرك زماننا لعلم فضل زمانه ولعرف بأنه لم يدرك آخر الزمان ، ولو عاين ما نحن فيه وما فشى في زماننا لفر بدينه ما استطاع الفرار ، ولأيقن أن زمانه ليس كما كان يظن ، ولعلم أن ما نحن فيه هو آخر الزمان الذي كان رسول الله يخبر بخبره ، الذي تتحقق فيه الفتن ويكثر فيه الهرج ، ويقبض فيه العلم ، وتنتهك فيه كل المحارم ، وفيه تقع أشراط الساعة ، من توسيد الأمر إلي غير أهله وطلب العلم من غير أهله ، ويصبح الناس من غير عقول ، ينقلب عندهم الباطل حقا والحق باطلا.
_______________________________________
عن عروة بن الزبير رحمه الله قال : حدثني كرز بن حبيش الخزاعي قال : أتى النبي أعرابي فقال : يا رسول الله هل للإسلام منتهى ؟ قال : ( نعم ، من أراد الله به خيرا من عجم أو عرب أدخله عليه ، ثم تقع فتن كالظلل يعودون فيها أساود صبا يضرب بعضهم رقاب بعض ، فأفضل الناس مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقي ربـه ، ويدع الناس من شـره )..
_________________________________________
وفي الصحيحين أن رسول الله قال لجبريل عندما سأله عن وقت قيام الساعة قال : ( ولكن سأحدثك عن أشراطها ، وأن ترى الحفاة العراة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان ) وفي رواية : ( ما الحفاة العراة ) ؟ قال : ( العريب ) . وفي رواية لابن مسعود في أشراط الساعـة ، جعل مجـرد وجودهم في القصور من أشراط الساعة ، فقال : ( إن من أشراط الساعة ، أن يكون رعـاة الغنم الحفاة العراة في بيوت المدر ). قال القرطبي : المقصود الإخبار بأن يستولي أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به .
وليس الأمر مقصورا على رعاة الشاء من دون العرب ، بل يشمل العرب جميعهم ، وإنما خص هؤلاء بالذكر تحقيرا لحالهم ولزمانهم ، وحتى يكونوا وتكون حالهم أظهر العلامات الدالة على قرب قيام الساعة ، وقد ظهرت فيهم هذه العلامة بعد ظهور البترول وكثرة المال ، ونزوح أهل البادية للأمصار ، ما احتاجوا معه لكثرة البناء ، ثم إن رسول الله لم يخص هذا الأمر وحده بالذكر مما هو كائن في زماننا هذا ، بل أكثر في ذلك حتى صار المقطوع به أن هذا الزمان زمان الفتن التي ذكر ، وأن أشراط الساعة المتحققة في هذا الزمن لهي دليل قاطع على قرب قيام الساعة والأمور العظيمة .
قال ابن مسعود : يوشك أن يأتي زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه كثير سؤاله قليل معطوه ، يحفظون الحروف ويضيعون الحدود والهوى فيه قائد للعمل . قيل : متى ذلك الزمان ؟ قال : إذا أميتت الصلاة وشيد البنيان وظهرت الأيمان واستخف بالأمانة وقبلت الرشا ، فالنجاة النجاة . قـال : فأفعل مـاذا ؟ قال : تكف لسانك وتكون حلسا من أحلاس بيتك، وخير الناس في ذلك الزمان غني مستخفي ، وشر الناس الراكب الموضع والخطيب المصقع . وفي لفظ إذا رأيتهم شرفوا البناء وجاروا في الحكم وقبلوا الرشا ، فالنجاة النجاة. وهذا صريح في تعيين زماننا ، وأنه زمان العزلة والفرار من الفتن ، لأنهم شرفوا البناء وقبلوا الرشا ووقع الجور والظلم وكثر الخطباء . قال أبو عبيد رحمه الله : كل شيء رفعته فقد أشدته ، ولا أرى البنيان المشيد إلا من هذا ، يقال : أشدت البنيان فهو مشاد ، وشيدته فهو مشيد إذا رفعته وأطلته .
______________________________________
وقد كثرت الروايات في ذم الزمن الذي يتطاول فيه الناس بالبنيان وهو زماننا هذا ، فعن أبي هريرة عن رسول الله قال : ( كيف أنت إذا أدركت ثلاثا ؟ أعيذك بالله أن تدركهن : طول البنيان وشدة الزمان ، وكذا ) وعن سلمان : إن من اقتراب الساعة أن يظهر البناء على وجه الأرض. وعن جندب كان يقول في أمراء وقته : إن هؤلاء القوم قد ولغوا في دمائهم وتحالفوا على الدنيا وتطاولوا في البناء. وقول جندب وقبله ما قاله عمر في تطويل البناء يدل على كراهة الصحابة لهذا الأمر ، وذلك لأنه ذكر لهم أن ذلك صفة قوم يكونون آخر الزمان ، ظهورهم مع بنيانهم من أشراط الساعة ، فكرهوا ذلك وذموه وخشوا أن يكون هذا في زمنهم ، وهذا منهم في وقتهم فكيف لو أدركوا ما فيه هؤلاء الأوباش من الناس يتقلبون في قصورهم يقولون نحن علماء ، إننا بخير إننا جماعة !! ، والرسول يقول : يتطاولون في البنيان وتظهر الفتن ويتقارب الزمان ويكثر الهرج ، الفرار الفرار ، ويريد هؤلاء الجهلة أن نترك كلام رسول الله وأمره وخبره لسفاهة عقولهم ، تَباً لهم في قرنهم هذا.
__________________________________
سأكمل الأدله والبراهين لاحقاً .... شكراً للقراءه ..
نأسف للإطاله ..