لايمكن لنا أن نجزم أو ننفي ولكن علينا أن نتباحث في هذه المسألة ، فهل نُحسن النوايا ، . قال مجاهد رضي الله عنه في تأويل قوله تعالى [ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] يُرد إلى الدنيا حتى يرى عمل أمته .وهو أقرب تلاميذ ابن عباس رضي الله ويشهد له ما روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة تلميذه الآخر في معنى الآية قال : هذه مما كان ابن عباس يكتمها .وهذا التأويل على هذا الوجه روي عن أقرب تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه ، بل مجاهد هذا ماذا كان يقول عنه مثل ابن تيمية رحمه الله تعالى ، قال : تفسير مجاهد هو أصح تفاسير التابعين اهـ . ( الإستقامة 1/224) . وعلى هذا كان أكثر الصحابة على هذا الاعتقاد وهم أول من قال به في هذه الأمة . وهنا رواية وإن كان في إسنادها مقال فلا شك بجواز الاستئناس بها .جاء عن عمر رضي الله عنه القطع بحضور النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الفتح آخر الزمان في ما رواه ابن سعد في الطبقات عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لمَّا حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ) فقال عمر : من لفلانة ! وفلانة ! ، ـ مدائن الروم ـ ؟!! إن رسول الله ليس بميت حتى نفتتحها ، ولو مات لانتظرناه !! كما انتظرت بنو إسرائيل موسى ! . فقالت زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم : ألا تسمعون النبي يعهد إليكم ؟ فلغطوا ، فقال : ( قوموا ) ! فلما قاموا قبض النبي صلوات الله وسلامه عليه مكانه .
وقد علل عمر في سبب الانتظار زيادة على ما ذكر في هذا الأثر ، تحقيق الله برسوله الإشهاد والظهور وقد أشير لذلك في الصحيح . ومما يشهد لهذا المعنى ما روى ابن اسحاق بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال : والله إني لأمشي مع عمر في خلافته وهو عامد إلى حاجة له وفي يده الدرة وما معه غيري , قال : وهو يحدِّث نفسه ويضرب وحشيّ قدمه بدرته , قال : إذ التفتَ إليَّ فقال : هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله ؟ . قلت : لا أدري يا أمير المؤمنين , أنت أعلم ! . قال : فإني والله إن كان الذي حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) فوالله إن كنت لأظن الرسول صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها , فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت . وقال في اعتذاره بين يدي الصديق في يوم أخذه البيعة لأبي بكر : كنت رجوت أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون آخرنا .
بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا في حياته عليه الصلاة والسلام يزعمون أنه لن يموت قبلهم بل سيبقى آخرهم كما ورد ذلك فيما روي عن واثلة بن الأسقع قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( تزعمون أني من آخركم وفاة ألا وأني من أولكم وفاة وتتبعوني أفناداً يهلك بعضكم بعضاً ) . يريدون بقولهم هذا بقاؤه عليه الصلاة والسلام في أمته ليحقق الإشهاد الذي نص عليه القرآن كما ذكر ذلك عن عمر وغيره حسبما ورد عنهم فيما رواه ابن سعد عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنهم قالوا ـ يريد أكثر الصحابة ـ : كيف يموت وهو شهيدٌ علينا , ونحـن شهداء على الناس , فيموت ولم يظهر على الناس ؟ لا والله ما مات ولكن رفع كما رفع عيسى وليرجعن .
قال تعالى في هذا الأمر : ( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون . أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ) وقال : ( وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) وقال : ( فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ) مع قوله عز وجل في هذا الأمر : ( وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ) وفي منطوق ومفهوم هذه الآيات دلالتين من القوة بمكان على إثبات صحة الإعتقاد بعودة رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الدنيا /
الأولى : أن الله قطع على قدرته في أن يري رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وعد أهل الكتاب من إنزال العذاب والخزي عليهم وهو مما سبق وأثبت أنه آخر الزمان ، وكيف يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراه من غير تحقق عودته ، وتعليق المولى عز وجل تحقيق رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الوعد على قدرته دال على جواز ذلك وإلا ما ذكره المولى عز وجل دليلا على القدرة .
وقال تعالى فيما يشهد للمعنى المذكور في هـذه الآيات السابقة : ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ..) روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : هذه مما كان ابن عباس يكتمها . أي تفسير المراد منها . وروى بعضهم عن الحكم عن مجاهد في هذه الآية قال : يُرد إلى الدنيا حتى يرى عمل أمته .
وابن عباس ما كان يكتم إلا هذا الإعتقاد , ولا وجه لكتمانه تفسير الآية إلا لعدم قدرته على البوح به خشية أن يكذب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من قوم تعجز عقولهم عن إدراك هذه الحقيقة .
الثانية : وصفه لقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ورد في تلك الآيات بـ( التوفي ) ومجرد ( الذهاب ) ولم يصرح بالموت ، وكان سياق الآيات جميعها على وجه الخبر ، وفي هذا دلالة لا تخفى لمن هدي لإدراك ما دق من المعاني والحقائق .
والله أعلم ، والله أعلم ، والله أعلم . سبحانه .