شكرا للجميع على التهنئة، وبناء على الطلب سوف أرفق بعض الفصول ولكن لنسخ غير منقحة فيها أخطاء كثيرة،، لأن الاتفاق مع دار النشر على عدم نشر أي جزء من النسخة النهائية إلا بالتفاهم الثنائي
إليكم قصتي العتيقة التي دارت أحداثها في مدينة الضباب لندن خلال الأعوام 1984، 1985 وجزء من العام 1986، عندما سافرت لمرافقة أخي ليتلقى العلاج من داء سرطان الدم، والتي سردتها بدقة بعد مرور أكثر من 25 سنة على حدوثها كما أذكرها الآن. فصلت في بعض المواقف واختصرت في أخرى وذلك لتحفظي من الاسترسال لأسباب خاصة، وكذلك لأعطي فرصة لخيال القارئ لإكمال الجزء المفقود منها. قد أكون شطحت قليلاً في السرد، لكني أحب أن أؤكد لكم بأن أساس القصة حقيقي، بيد أن داعي الحبكة الدرامية وأسلوبي في السرد هما اللذان أعطيا العنان لقلمي لينسجها كما ستبدو فصولها لكم. كتبت كل قصة كما طرأت علي بدون ترتيب للتواريخ، وسيجد القارئ فيها الجوانب التراجيدية والكوميدية والرومانسية والجريمة والخيال،،،،أرجو أن أكون قد وفقت في تدوينها لكم كما هي أو أقرب لما كانت عليه.
محبكم نديم الهوى.
تعود بي الذكريات للعام 1984 عندما أتممت دراسة مرحلة الثانوية العامة في مدرسة الخليج في الدمام، وأصيب أثنائها أخي الذي يكبرني بسنتين بداء سرطان الدم "اللوكيميا "، والذي لم يكن العلاج يتوفر له بعد في السعودية. وبعد حصولي على الشهادة قررت الإلتحاق بكلية الملك عبد العزيز الحربية في الرياض، بعد أن توسط لي زوج أختي في عملية القبول فيها، وكان يعمل كقائد لاستخبارات الدفاع الجوي في المملكة. أذكر أنه طلب مني فقط ورقة بيضاء طواها فوق ركبته وكتب عليها على عجل توصية مقتضبة لقائد كلية الملك عبد العزيز الحربية في الرياض،"أفيدكم بأن حاملها هو أخ زوجتي وآمل أن تجد له مقعد في الكلية!!!". عندما وصلت الرياض قدمت أوراقي للكلية وقبلت دون تعقيدات تذكر بفضل تلك التوصية البسيطة، فلم يكن القبول في الكلية بالمسئلة الصعبة في تلك الأيام.
بعد ما أتممت عملية التسجيل، تم تحويلنا إلى المستشفى العسكري بالرياض لعمل الفحوصات اللازمة، ولما استلمت أوراقي وطلب مني الضابط الذهاب للمستشفى، سألته، وكان من أهل الجنوب، بلهجت أهل الشرقية التي كنت متأثر بها كثيرا (ما عندكم باااااااااص يودينا للمستشفى؟)، كانت لهجة غريبة عليه ويبدو أنه لم يعهدها من قبل،، فهي لهجة دمامية قريبة من لهجة أهل البديع في البحرين،،، الأمر الذي أدهشه وجعله ينظر نحوي شذراً،، ثم صرخ بأعلى صوته (أفلللللللللح) أي أقلب وجهك،،،، الناس يا بابا تتسابق تكمل التسجيل وحضرتك تبي باااص،،،، لا وش رأيك أرسل معاك سواق العائلة يوديك،، بلاش مقاضي للبيت اليوم،،،يا عسكري خذ ذا البلية وانطله برا,,هيهيهيه!!.
لكن لحسن الحظ لقيت في الصالة بعض أقراني الذين درست معهم المرحة الابتدائية في مدينة الطائف، وكانوا مثلي يقصدون التسجيل في الكلية، وشاءت الأقدار أن نجتمع سوياً بعد سنوات عديدة من الفراق في الرياض. ذهبت معهم للمستشفى العسكري وعملنا الفحوص الطبية الضرورية،،، وأتذكر إنهم اكتشفوا سرطان في الرئة لأحد الأشخاص المتقديمن للتسجيل معنا. كان على فكرة معانا واحد "دبوس" متنكر ومسوي نفسه يسجل معانا ويرافقنا بكل عمليات التسجيل، بس كان واضح جداً بانه دبوس، لأن عمره في الأربعينات ويعاني من الهزال ونحن يا دوب 17 سنة، وبعدين ما كان يعرف يعبي الأوراق زي العالم.
بعدما قبلت مبدئياً في الكلية،،، سافرت مع زوج أختي إلى مكة المكرمة خلال العشر الأواخر من رمضان لمقابلة سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز لطلب تحويل أخي للعلاج إلى لندن عن طريق الملحقية العسكرية. دخل أبو نسب للمختصر الخاص بسمو الأمير وعاد بأقل من دقيقة واحدة، قسألته"عسى ما شر، شكلك ما قدرت تعرض الموضوع"، فابتسم وقال لي "أبشرك طويل العمر وافق على التحويل للعلاج في لندن" ؟؟؟، رديت باستغراب شديد،،، كذا بكل بساطة،،، وافق في أقل من 40 ثانية، ما يمديه قرأ "المعروض" ،،،،،،، لكن هذا الذي حصل في الواقع.
ولكن لو تعلمون أن تلك الأربعين ثانية كانت تعني لي رحلة إلى لندن الثمانينات طالت لسنتين رافقت فيها أخي للعلاج، وتهت خلالها في شوارع لندن السبع توهات،،، عشتها وحيداً في معظم الأوقات،،وقابلت خلالها بشراً لم أعهدهم من قبل،، ومررت بتجارب وحكايات بعضها كان أقرب للخيال، وهو الأمر الذي غير مجرى حياتي لاحقاً،،،، وكذلك للأبد.
في الدمام، بدأنا التجهيزات لسفر أخي، وكان أخي الذي يصغرني هو الذي سوف يتبرع بجزء من نخاع عظمة لأخي العليل، حيث أن هذه هي الطريقة المتبعة في علاج مرضى سرطان الدم، وعرفنا ذلك بعد أن قام جميع أفراد الأسرة بعمل الفحوصات الطبية لدى الدكتور السوداني الأنيق عز الدين إبراهيم في المستشفى التعليمي في الخبر والذي كان دوماُ يضع نحو ستة أقلام مختلفة الألوان في جكيته الطبي الأبيض.
سافر أخي المريض، مع أخي الصغير المتبرع وكذلك أخي الأكبر ووالدي إلى لندن، وبقيت أنا مع الأسرة في انتظار الإنضمام للكلية الحربية. بعد حوالي شهر اتصل بنا أبي من لندن وقال يا نديم (اسمي المستعار طوال الرحلة)، يجب عليك الإستعداد لمرافقة أخيك في لندن في القريب العاجل، فقد علمنا من الطبيب المعالج الدكتور "قولدمان" أن عملية العلاج ستتطلب الكثير من الوقت ويجب أن يكون لديه مرافق طوال الرحلة، ولأن أخي المتبرع يتعين عليه العودة سريعاً لأن لديه إختبار دور ثاني، أما أبي وأخي فسيعودان لوجود الكثير من الإرتباطات والعمل في السعودية. وعندما سألت أبي وماذا عن الكلية الحربية،، هل أتراجع عن الإنضمام لها؟؟ ، رد علي وقال، "إنس موضوع الكلية،،أخيك أهم الآن،،،وسوف أعوضك عنها خيراً منها!!".
نسيت أمر الكلية بكل بساطة بالرغم من أنه كان حلما بالنسبة لي أن أرى النجوم تتلألأ على كتفي كبقية أقراني في أيام الصبى تلك،،فجهزت أوراق السفر الضرورية والتأشيرة بسرعة وأنتظرت على أحر من جمر لندن التي كنت دوماً أسمع عنها منذ كنت غراً،، وأكثر ما عرفت عنها هو ما شاهدته في مسلسل قديم كانت تدور أحداثة في شوارع لندن الخلفية واسمه "الأتوبيس ذي الطابقين double decker ". وقبل السفر مباشرة ذهبنا للتخييم في شاطئ "الهاف مون" كرحلة وداعية قبل لندن، وكان من زملائي في تلك الرحلة ، راشد الماجد الذي أصبح لاحقاً مطرباً مشهوراً في عالم الطرب، ونبيل وسعد الشعيبي ومحمد وليد، وكلهم فنانين على مستوى كبير، بل أن نبيل الشعيبي (الشعيبي وليس نبيل شعيل) كان صوته أجمل من صوت راشد الماجد بكثير، فقد كان صوته حزين ترق له القلوب وفيه بحة رقيقة، خاصة إذا أشدى بأغنية كلها شجن على نغمات عوده الجريح ( يا حبيبي أهواك وروحي فداك،،، ودي أسأل والله أسأل على حبيبي إلي راح، راح وخلاني وحيد راح وخلاني حزين)
كنت نائماً في آخر يوم من الرحلة داخل الخيمة وحبات الرمال تملأ إذناي والجو حار ورطب بالرغم من وجود تكييف في الخيمة، وفجأة أتى موظف عند أخي اسمه عم "حسين الشربيني"، مصري في مثابة والدي يوقضني من النوم" قوم يا نديم، قوم يا عم أنت مسافر الليلة دي لندن، قوم أمال.
قمت وذهبت من فوري إلى سوق "عيال بن ناصر" في الدمام، القريب من سوق الأرزاق، وسوق الحب واشتريت بناطيل ماركة أبو رفسة وجاكيت طويل من مخلفات الحرب العالمية الثانية أو الأولى، لست متأكداً ورجعت للبيت وأخذت جل ملابس أخي الكبير إلي كان يدرس في أمريكا والمتواجد حالياً في بريطانيا.
عند المساء دعاني كل من "رشود ونبيل" وصديق آخر اسمه "ناشر" لتناول "وليمة سندوتشات" في "بوفية عزيز" شربت خلالها ثلاثة أكواب منجا لأول مرة وكأني جمل يقوم بتعبئة سنامة استعداداً لرحلة يقطع فيها البراري والققار، وكادت أن تنفجر بطني من ذلك عندما وصلت المطار لأني كنت ضعيفاً جداً ووزني لم يزد يوما عن 58 كيلوغراماً.
عند المساء ذهبت لمطار الظهران القديم وكانت رحلتي على طيران "برتش كاليدونيا"، وهي خطوط اندثرت منذ زمن، فركبت في الطائرة وماني عارف منين يودي على فين!!،،، فجلست بين مسافر ياباني وآخر انجليزي حمر عطر، كانت لغتي الانجليزية تفشل في تلك الأيام، لذلك لم أتحرك من كرسيي طوال الرحلة الميمونة،، فلم أجرأ على أن أستأذن من جاري خشية أن أخطء في كلمة اكسكيوزمي مثلاً،، بالرغم من أني رددتها سراً في قلبي مرات ومرات وتأكدت بأني أجيدها ولا عيب فيها. بعد العشاء أتت المضيفة بعصير، فأخترت سفن آب في كأس بلاستيكي أبيض، لكني اكتشفت انه خمراً من رائحته النفاثة، وتورطت كيف أناديها لإرجاعه،،، كنت خجلان مرة من فتح أي حوار، بس عندما هدأت الأمور وذهب الجميع في سبات عميق،، قمت بسكب الشراب على تحت المقعد فأنتشرت الرائحة في جميع أنحاء الطائرة حتى وصلنا لندن.
عند تعبئة نماذج الهجرة التي تسلم عند الوصول، سألت الياباني الجالس بجانبي عن طريقة تعبئتها، لكني أكتشفت أنه أهبل ولا يفهم كلمة انجليزي واحدة، حتى أني حسبت أنه أصقه، ما يفهم لا يس ولا نو،،، لذا طلبت المساعدة من مورد الخدين البريطاني، والذي يبدو أنه تورط وهو يحاول يائساً أن يفهمني طريقة تعبئتها،،، نصف ساعة بس عشان يفهمني تاريخ الميلاد!!!، لذا أتممت العملية بعد ذلك بشخابيط ما أنزل الله بها من سلطان،،خط شي كبيتل وشي سمول وأدعيت أن عنواني في السعودية هو شارع الأمير سعد،!!! أي سعد الله يرحم والديك، أصلا ما اعرف حتى اسم شارعنا ولا عمري طالعت اللوحات الي معلقة فيه!! إذا فيه أصلاً لوحات،،،،، لا ،،وبعد كتبت كلمة أمير بالانجليزية Shari alamerr saaaaaad ولما اقتربنا من موظفي الهجرة، أصطفيت في طابور قصير، طلع المسار خاص بالبريطانيين فقط، ولما وصلت عند موظف الجمارك فهمت منه على غفلة إني في مكان غلط، وأشرلي على طابور أخر مزدحم، رحت له،،،وبعدين رجعت مرة ثانية وقلت له"آر يو شور"، مسوي نفسي فاهم، فصرخ علي قدام الله وخلقه مع صباح الله خير صرخة مدوية حملتني لآخر السرا في المكان المخصص للمنبوذين، قصدي الي غير البريطانيين.
طلعت بعد جهد خرافي لصالة الوصول في مطار "قيت ويك"، وهو المطار الثاني بعد هيثرو في لندن، وسمعت واحد يناديني نديم نديم، وتوالى صدى الأصوات لأرى أبي ومعه شابين جزائريين ، سلمت على أبي وعرفني على الشابين نسيم، وعبد الرحمن. واتجهنا لمحطة القطار نحو وسط لندن. كنت مذهولاً مما أرى أمامي،، فلأول مرة أرى الناس بشكل لم أنسه طوال حياتي، كأنني كنت في السعودية أشاهد تلفاز أبيض وأسود طوال عمري الفائت،،، لكن الآن بدأت أشاهد تلفاز ألوان 1000 بوصة وعليها بوسة، أول مرة أشاهد البوليس الأنجليزي في ملابسه التقليديه أمامي بطوله الفارع الذي لم أعهده،، وكذلك أندهشت بشدة من أناقة النساء ورشاقتهن،، وبدون عبايات وإلي مايشتري يتفرج ،،، وصرت أبحلق في خلق الله وأتسائل عن سر الإبتسامة التي لا تكاد تفارقهم أبداً،،، خصوصا عندما يتفاجأون بنظراتي المتفرسة والمسترسلة.
ركنبا القطار المتجه لمحطة فكتوريا بوسط لندن، وجلست أمامي صبية بريطانية في العشرينات من عمرها، ذات شعر أشقر وخدود حمراء وعيون زرقاء، وعلى ما يبدو أن الصدمة الثقافية بدأت أعراضها لدي دون أن تأخذ حتى دور الحضانة،،، فبادلتها النظرات المشفوحة بقوة، فابتسمت لي ابتسامة رقيقة،، فقلت في نفسي شكلها حبتك يا ولد!!،، أخ لو الوالد يروح ياخذ له كوفي ،،كان أشبك معاها وتصير ماي قير فريند،، بس والله كنت معذور بسبب ما عانيت من قحط وفقر وحرمان عاطفي مزمن. ، فأنا أجزم الآن أن البنت الإنجليزية كانت تبتسم اندهاشا من ملابسي غير المتناسقة أبداً أبداً. فنعالي وانتم الكرامة نجدية تصدر ضجيجاً عالياً على أي سطح خشن،، وفحيحاً فوق الفرش، وبنطولني كحلي نايلون من سوق الخميس بالقطيف ، على جكيت بلوفر رمادي من عصر هتلر، بلوزه من سوق عيال بن ناصر ، ثنتين بخمستعش ريال. بس كان والله العالم يشفع لي تلك الأيام وسامتي ورشاقتي، بالرغم من رداءة ردائي.
وصلنا محطة فكتوريا ثم استقلينا الحافلة إلى الشقة، رقم 41 في عمارة رالف كورت، القابعة في شارع الكوينزواي في وسط لندن، وعندما دخلت الشقة صدمت عندما رأيت أخي وقد سقط شعره وذقنه وحواجبه بسبب العلاج الكيماوي. بل أنه أصبح أقرب للهيكل العضمي. ضممته وبكيت حزناً عليه خاصة أنه قبل أربعة أشهر كان شاباً وسيماً عملاقاً يدرس المستوى الثاني في كلية الطب في جامعة الملك فيصل، قبل أن يصاب بجرح في ركبته أثناء لعبة كرة القدم، وحاول علاجه بشتى الطرق، ولكن الجرح بدأ يزداد سوءا، لذلك عمل فحص للدم وظهرت النتيجة ايجابية بإصابته بسرطان الدم. بحثنا له عن علاج في كل مكان في السعودية، حتى أن أبي أشترى له ناقة ب 25 ألف ريال، وكان هذا أعلى سعر في تلك الأيام قبل مزايين الأبل، ووضعنا الناقة مع صاحب حلال اسمه بن هندي وكان يحضر لنا يوميا دلواً من حليب الناقة نسقيه لأخي لعله يشفيه.
بعد أن جلست مع أخي وأطمأننت علي تجولت في الشقة الجميلة الصغيرة المساحة مقارنة في بيوتنا في السعودية وعرفت أن أخي الكبير اشتراها بحوالي 45 ألف جنيه من صاحبها العراقي، وكان سعر الجنيه 4.30 ريال فقط،. وقد قام أخي ببيعها لاحقا في العام 2000 ب 770 ألف جنيه. ثم ذهبت للغرفة المجاورة ونمت حتى العصر، لأصحو على جلبة ثلة جزائريين مطاوعة يرحبون في ويتحمدون علي بالسلامة، فقد كان أخي المريض من منظري ورواد صحوة الثمانينات الميلادية في السعودية، ورغم صغر سنه وقلة خبرته كما يبدو لي الآن، إلا أنه كان يقرأ ويحفظ ويفكر بطريقة تختلف عن الكثير من أقرانه. أذكر قبل سفره إلى لندن للعلاج أنه كان من النشطين في دعم الجهاد في أفغانستان وكان يجمع التبرعات الهائلة ويجتمع مع (أمراء حرب كما كان يطلق عليهم) مستحيل تصدقوني لو ذكرت أسمائهم الآن، ولن أذكرهم أبدا، لأن في تلك الأيام كانوا مدعومين من كل الجهات والآن أصبحوا غير مرغوب فيهم. تبادلت معهم الحديث على عجل، وبصراحة لم أطق التعامل معهم أبداً، فأنا قادم إلى لندن لمرافقة أخي والعناية به حتى يشفى بإذن الله، وأريد أن أرى لندن التي أسمع عنها دوماً منذ نعومة أظافري ، أريد أن أتمتع برؤية الطبيعة الغناء والريف الإنجليزي الذي شاهدته في كثير من الأفلام والقصص والأسواق الجميلة والعريقة والمقاهي اللندنية. بسنا ياعمي مطاوعة،، شبعت من المطاوعة الي كانوا مخلين بيتنا "مزار شريف"،لكنهم الغريبة ما قدروا يسيطرون على عقلي، لهم رغم تقديري لمستواهم العملمي والثقافي فأكثرهم كانوا في كلية الطب، وأذكر أنه كان عندي أيامها سيارة جيب من نوع زوزوكي وكان أخوي يستخدمها كثير لتوصيلهم لكلية الطب في جامعة الملك فيصل لمدة تزيد عن سنة لأنهم كانوا مفلسين، ولو جمع ما في جيوبهم عن بكرة أبيهم وضرب المبلغ بأربعة أضعاف لما وصل لعشرة ريالات. كنت بدوري دوماً أصيبهم بالضيق والضجر عندما أتأخر عليهم في التوصيل، لكنهم لم يستطيعوا أن ينتقموا مني لأنهم كانوا محتاجين لخدماتي وإلا انقطعت بهم السبل. الآن ما شاء الله، كلهم أطباء مستشارين ورؤساء أقسام ويعدون من الطبقة العليا في المجتمع، وحتى الطواعة بعضهم لحسها.
عندما رأني الإخوة الجزائريين في الشقة بدأوا بتفحصي جيداً،،، بس شكلهم ما استبشروا خيراً،،، فقد حسبوني من رفاقهم، لكنهم شافوا شخص ثاني ما راق لهم. لذا تركتهم وطلعت بعد ما لبست بالطو هتلر وتجولت وسط شارع الكوينزواي لأتنفس الصعداء، فأجواء لندن جميلة في شهر أغسطس العليل، والناس حلوة ومحلات القهوة المتراصة على الرصيف يرتادها زبائن كلاس جلهم أوربيين وقليل من العرب، لأنه في تلك الأيام ما كان كل العرب يجون زي الحين. تقدمت لأخر الشارع حتى وصلت لحديقة "كنجنستون" التي تقع في الطرف الجنوبي من الشارع، وتعتبر امتداد للهايدبارك من ناحية الغرب وتسكن فيها الليدي ديانا، وتشارلز ولي العهد البريطاني، يعني صرت باختصار جار الليدي ديانا بعد ما كنت بالأمس فقط جار "عبد الله بن غرم الله بن يعن الله وأولاده" في السعودية. دخلت الحديقة ولأول مرة في حياتي أشاهد بالعين المجردة التلال الخضراء اليانعنة على مدى البصر،،، وأشجار باسقة تتهادى شامخة وسط هواء لندن العليل،،، وأسراب الحمام تقف على عاتقي ولا تهرب مني والبط والأوز يقترب مني وأنا أجلس على المقعد أنظر نحو البحيرة الدائرية في وسط الحديقة،،، ولم أجد أثراً للنخيل الذي تركته خلفي في "شارع أبو مية" في الدمام، الذي يسقى بماء مالح ليل نهار ولسنوات عديدة لكن لم يتعد طوله متر ونصف ولونها أشهب مغبر. أنا أول مرة أطلع برا السعودية، وحسيت أني فعلاً بحلم وردي لا أريده أن ينقطع أبداً. رجعت مدهوشاً نحو شارع الكوينز واي وجلست على قهوة عربية في بجوار "مكتبة رمضان" وجلس بجواري زول سوداني وبادرني بالتحية متسائلاً،،، أنت عربي؟؟؟ أجبت نعم،،، وقعدنا نسولف وكان أثنائها يكرع البيرة بشراهة، فقلت له بلقافة ليه تشرب خمر يازول، قال هذا مهو خمر، هذا بيرة خفيفة، رديت باصرار،، له كلها حرام، قال حتى بعض السعوديين يشربون اش معنى بتنصحني أنا، رديت له بكل براءة، يا أخي أنا كل السودانيين إلي شفتهم بحياتي كانوا دايم أول ناس في المسجد، بس أول مرة أشوف سوداني يشرب خمر. أنا قلت الكلمة هذي وشكل السوداني أنضرب بشحنة 200 ألف فولت تغير وجه وبكى المسكين، قال يا أخي والله أنا في قلبي مسجد ومئذنة بس ظروف هروبي من السودان خلتني أصير كذا...وطلب الحساب وغادر على عجل بعد أن رمقني بنظرة كأنه يقول "طلعت لي من وين يا النكبة"،،، ثم طلبت كعك وقهوة وكأني لم افعل شيء....فهل سأكون مصلح إجتماعي في لندن من أولها،،،،،،،،،،،،،للننتظر ونرى بقية الفصول.
بعد ما استقر بي المقام في لندن أخذني الوالد ثالث يوم للملحقية العسكرية لأنها هي مرجعنا في العلاج. رحنا للملحقية العسكرية وكانت في منطقة هولاند بارك، القريبة من نوتنينق هيل قيت، وشمال هاي ستريت كنجنستون وسجلت اسمي مرافقاً جديداً لأخي لأن الوالد وأخي الكبير سوف يغادران للسعودية في القريب. بهذا التسجيل صار يصرف لي 250 باوند كل أسبوع، وأخي المريض 250 يعني 500 في الأسبوع، الصراحة كان مبلغ كبير وأكثر من حاجتنا ذيك الأيام. وفي الملحقية العسكرية قابلت واحد يشبه "سبأ با هبري" مذيع الأخبار في السعودية، سألته قلت أنت "سبأ با هبري"، قال لا أنا أخوه، وقعدنا نسولف نصف ساعة مع بعض و لما جيت أروح قال ترى أنا "سبأ با هبري" بس حبيت أمزح وياك.
وفي اليوم التالي رافقت أبي في زيارة للسفير السعودي في بريطانيا،" ناصر المنقور"، رحمه الله الذي كان صديقا قديم للوالد، عندما كان الوالد في يوم من الأيام يعمل في مجال المقاولات وكان السفير رئيسا لشركة اسمنت اليمامة. قابلنا السفير بود شديد وطلب مني الاتصال به في وقت أو بمدير مكتبه إن احتجت للمساعدة. وفجأة بدأ يتحدث معي باللغة الإنجليزية، ولما أحس أنه قاعد يؤذن في مالطا، قال شوف يا ابني أنت جاي مرافق لأخيك، وهذا عمل نبيل، لكن بيكون عندك وقت فراغ طويل ولازم تتعلم اللغة الإنجليزية عشان تستفيد من وجودك هنا، وما انتظر ردي ونادى سائق سوري وقال تأخذ أبو نديم توصله سكنه وتروح لمدرسة اسمها "لينك سكول أوف انقلش “
Link School of English وتسجل فيها نديم وتغطي مصاريف الدراسة من المحاسبة. شكرناه على مبادرته الطيبة، وأصلا كنت حاط في بالي أسجل في أي معهد عندما تستقر أموري، لكن سبقنا رحمة الله بطيبته وببعد نظره.
بعد مرور بضعة أيام عرفنا إن العلاج سيستمر لأشهر طويلة، وبما أن أخي المريض كان سلفيا متشدداً ولا يأكل طعام"أهل الكتاب" رغم وجود فتوى بذلك وآية كريمة تحلل أكلهم، بس وش نقول عاد. عشان كذا بدأ أبوي يعلمني فن الطبخ، فبدأ معي خطوة خطوة، كيف أولاً أطلب من الجزار تقطيع الخروف حسب الأكلة إلي بعملها، مثلا، المشوي بالفرن يعمل قطع مستديرة مثل الإستيك، الريش كيف تكون، وعلمني الكبسات والمشخول وعلمني كيف أسوي أكله اسمها منتو، كان أخوي يحبها، وهي عجين وسطه لحم تم تحميسه وتطبخ على البخار. احتجنا لعمله أن نشتري قدر خاص، فركبنا الأندرقراوند من الكوينز واي إلى منطقة أسواق شعبية غالبية البائعين فيها من اليهود وفيهم الكثير من اليهود العرب وتسمى ليفربول ستريت. رحنا هناك وكان السوق فعلا شعبي وعربيات فيها تقليد للماركات وأسعار رخيصة جدا وتكثر فيها المطاعم الشعبية مثل الفش آند شبس الأكلة الشعبية الأولى للإنجليز. والفش آند شبس للمعلومية أصبحت الأكلة الشعبية للبريطانين منذ العام 1888م. والسبب لأنه في تلك السنة تقريبا بدأ تسيير القطار البخاري بين معظم المدن فأصبح من الممكن نقل السمك من الشواطئ إلى المدن الداخلية خلال ساعات بسيطة قبل أن يتلف السمك، وبذلك ازدهرت مطاعم الفش آن شبس. كانوا في السابق يلفونها بورق الجرائد وتؤكل باليد، الآن تلف في أوراق أو صحون مع شوك بلاستيكية.
اشترينا في النهاية القد الذي يوجد في وسطه شبك معلق، عشان نضع تحت الشبك ماء وفوق نضع العجينة وداخلها اللحم المحموس، وبكذا تنضج الأكلة بالبخار ونحصل على أكلة منتو. يا سلام،،، أخرتها طباخ في لندن.
جاكولين
في البداية ومع عدم معرفتي الجيدة بشوارع لندن ومحلاتها الجميلة، فضلت كثيراً الجلوس على نافذة الشقة المنيفة في الدور الثاني، فأقوم طوال النهار بفتح النافذة لينعشني تيار الهواء البارد في شهر أغسطس، حيث يحلو لي القراءة، واختلاس النظرات من وقت لآخر مراقباً المارة الذين لا ينقطعون في هذا الشارع الذي لا يهدأ ليلاً نهارا. واكتشفت في الجهة المقابلة من عمارتنا في شقة مواجهة لنا تماما امرأة جميلة وبرونزية اللون تروح وتجيئ في شقتها المشرعة الستائر في ملابس منزلية بحتة، وفي بعض الأحيان تنزل للتريض مع كلبها الصغير من نوع بودل، وترمقني بنظرات وابتسامات غاية في الروعة، فلونها البرونزي مع أسنانها البيضاء كأنها قطاف الثلج منظراً لم أكن متعوداً عليه البتة، فما زلت بالرغم مرور بضعة أسابيع على وجودي في لندن أعاني شيئاً ما من الصدمة الثقافية خاصة من ناحية الجنس اللطيف.
بيد أنه في أحد الأيام وقد كنت عائداً لتوي من المدرسة، صادفتني تلك المرأة البرونزية الفاتنة أسفل العمارة، فبادرتني بتحية باللغة العربية وقالت "شو ما بدك تبطل قراية عى الشباك، عامل حالك عبد الحليم حافظ"،،،،،،، يا ساتر طلعت عربية،،،،، فابتسمت لها وبصوت سعودي مصلوخ ومتهدج،،،، قلت لها "جنابك عربية"، قالت "يا عيب الشوم ولو عربية أبا عن جد، أنا اسمي جاكولين من لبنان"، تشرفنا يا ستي،، أنا نديم الهوى، من مدينة العمال في الدمام، شارع أبو مية،قصدي من السعودية.
سألتني شو بتعمل هون وشو العجئة في شئتكن، قلت لها على السالفة والعجئة، تعرفين سكان الجزائر كثير وبعضهم هاجر لشقتنا بحثا عن المأوى!!، ضحكت وقالت الله بيعين. مشيت معها قليلا فلمحت لي عن تناول فنجان قهوة سوياً. ولأنها كانت إمرأة كلاس وتعمل في محلات ماكس مارا، أخذتنني إلى مقهى في "فندق رتز"، والذي اشتراه في تلك الفترة المليونير الفهلواني محمد الفايد، صاحب محلات هارودز الشهيرة وصاحب شركة هاوس أوف فريزر. استقلينا تاكسي وشربنا شاي إيرل غراي مع البسكويت والفطائر اللندنية الراقية في بهو الفندق. ثم أشارت لي أثناء تبادل أطراف الحديث نحو مقعد جميل محاط بحبال حمراء كسياج، وسألتني تعرف لمين هيدا الكرسي دخلك نديم، أجبتها بالنفي، فقالت هيدا الكرسي تئبرني محجوز منذ العام 1955 لمهراجا هندي، لأنه جنابه أتى يوما من الأيام لشرب الشاي فلم يجد مقعدا متوفراً لجنابه،،، فقام بحجز المقعد إلى الآن ليستخدمه متى ما شرف. يا ساتر، يعني حوالي ثلاثين سنة سجن،،، قصدي حجز، يا الله، والله لندن فيها غرائب وعجائب، وإلي عنده فلوس يقدر يسوي فيها أشياء كثيرة ما تخطر على البال. والمهراجا يا ساده يا كرام هم ملوك الهندوس القدماء الذين بدأو بالانقراض حاليا ولم تعد لهم صلاحيات سوى صلاحيات شكلية، وهذا الكرسي قد يكون أهم صلاحياتهم في الوقت الحالي والله أعلم.